بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، تذكرة لأولي القلوب والأبصار، وتبصرة لذوي الألباب والاعتبار، الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه فزهدهم في هذه الدار، وشغلهم بمراقبته وإدامة الأفكار، وملازمة الاتعاظ والادكار، ووفقهم للدأب في طاعته والتأهب لدار القرار، والحذر مما يسخطه ويوجب دار البوار، والمحافظة على ذلك مع تغاير الأحوال والأطوار.
أحمده أبلغ حمد وأزكاه، وأشمله وأنماه، وأشهد أن لا إله إلا الله البر الكريم، الرؤوف الرحيم، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، الهادي إلى صراط مستقيم، والداعي إلى دين قويم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيئين وآل كل والصالحين. أما بعد:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على ان ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
هذا الحديث العظيم يتضمن جملا مفيدة من النصائح النبوية، وهذا تفصيلها.
الوصية الأولى التي وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الغلام هي: احفظ الله يحفظك.
يعني احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، ويتمثل ذلك في فعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه.
وهذا كله يدخل في حفظ حدود الله، قال الله تعالى: والحافظون لحدود الله.
وقال تعالى: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب.
وفسر الحفيظ في الآية بأنه الحافظ لأوامرالله، وفسر بالحافظ لذنوبه حتى لا يرجع منها، وكلاهما يدخل في الآية.
وأعظم ما يؤمر المسلم بحفظه: الحفاظ على الصلوات الخمس.
قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى. وقال تعالى: والذين هم على صلواتهم يحافظون.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة.
وقال عليه الصلاة والسلام: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة.
ومما أمر الله تعالى بحفظه: حفظ الأيمان، قال الله تعالى: ذلك كفارة أيمانك إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم.
فمن حفظ أيمانه دل على دخول الإيمان في قلبه.
وكان السلف كثيرا ما يحافظون على الأيمان، فمنهم من كان لا يحلف بالله البتة، ومنهم من كان يتورع حتى يكفر عما شك في الحنث فيه.
ومما يلزم المؤمن حفظه: رأسه وبطنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الاستحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.
وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات.
وحفظ البطن وما حوى، يتضمن حفظ القلب من الإصرار على محرم.
وقد جمع الله تعالى ذلك في قوله: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا.
ويدخل في حفظ البطن: حفظه من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات.
ومما يجب حفظه من المنهيات: اللسان والفرج، فعن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة.
وقد أمر الله تعالى بحفظ الفروج ومدح المحافظين عليها.
قال الله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم.
وقال تعالى: والحافظين فروجهم والحافظات.
وقال تعالى: والذين لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين.
جعلني الله وإياكم ممن حافظ على حدود الله وشرعه، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من حفظ الله حفظه الله،
أي أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله، لأن الجزاء من جنس العمل، قال تعالى: أوفوا بعهدي اوف بعهدكم. وقال: فاذكروني أذكركم، وقال تعالى: إن تنصروا الله ينصركم.
وحفظ الله تعالى لعبده على نوعين:
الحفظ الأول: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتالي من تحتي.
وهذا الدعاء منتزع من قول الله تعالى: له معقبات من بين يديه ومن خلفه.
قال ابن عباس: هو الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلو عنه.
ومن حفظ الله للعبد : أن يحفظه في صحة بدنه وعقله وماله.
وقال بعض السلف: العالم لا يخرف أي لا يفسد عقله من الكبر.
وقال بعضهم: من جمع القرآن متع بعقله.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده كما قيل في قوله تعالى: وكان أبوهما صالحا.
قال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها والدويرات التي حولها فما يزالون في حفظ الله وستر.
ومتى كان العبد مشتغلا بطاعة الله عز وجل فإن الله تعالى يحفظه في تلك الحال.
كان شيبان الراعي يرعى غنما في البرية، فإذا جاءت الجمعة خط عليها خطا وذهب إلى الجمعة ثم يرجع وهي كما تركها.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه أن يحفظه من شر كل من يريد ه بأذى من الجن والإنس.
قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا.
قالت عائشة رضي الله عنها: يكفيه غم الدنيا وهمها.
وقال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس.
وكتب بعض السلف إلى أخيه: أما بعد، فإنه من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله الغني.
كذلك، فغن الله تعالى يحفظك من الحيوانات المؤذية، من ذلك، أن سفسنة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كسر مركبه، وخرج إلى جزيرة، فرأى السبع، فقال له: يا أبا الحارث: أنا سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يمشي حوله ويدله على الطريق حتى أوقفه عليها، ثم جعل يهمهم كأنه يودعه وانصرف عنه.
وكان أبو إبراهيم السائح قد مرض في برية بقرب دير، فقال: لو كنت عند باب الدير لنزل الرهبان فعالجوني، فجاء السبع فاحتمله على ظهره حتى وضعه على باب الدير، فرآه الرهبان فأسلموا وكانوا أربعمائة راهب.
وكان إبراهيم بن أدهم نائما في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس فمازالت تذب عنه حتى استيقظ.
فالخير كله في طاعة الله والإقبال عليه، والشر كله في معصية الله والإعراض عنه.
جعلني الله وإياكم ممن نيستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
موضوع: خطبة الجمعة- احفظ الله يحفظك-21/11/2008 
الجمعة نوفمبر 21, 2008 4:20 am
