الأصل بقاء ما كان على ما كان
وهـذه أيضًا قاعـدة مـن قواعد الأصول وهي مهمة في بابها وبيانها أن يقال : قوله ( الأصل ) أي الشيء الثابت المتقرر عند الشرع هو ( بقاء ) أي استمرار واستصحاب ، قوله : ( ما كان ) أي في الزمان الحاضر نفيًا أو ثبوتًا أي سواءً كان الذي استصحبناه نفي شيءٍ أو إثبات شيء ، قوله : ( على ما كان ) أي أن ما ثبت في الماضي أو ما هو منفي في الماضي فحاله الآن هي حاله في الماضي ، أي أنها لم تتغير ولم تتبدل فإن كان الحالة في الماضي مثبتة فهي الآن مثبتة وإن كانت منفية فهي الآن منفية ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل ، وهذه هي قاعدة الاستصحاب أي استصحاب الحال الماضية ، وهي فرع من فروع قاعدة اليقين لا يزول بالشك ، لأن ما كان في الماضي قد تيقنـاه فـإن كان ثبوتًا فإننا قد تيقنا ثبوته وشككنا في زواله فنبقى على ما تيقناه ، وإن كان نفـيًا فإننا قد تيقنا نفيه وشككنا في ثبوته فنبقى على ما تيقناه ؛ لأن اليقين لا يزول بالشك ، وهذا واضح - إن شاء الله تعالى - .
وإليك بعض الفروع حتى تتضح أكثر فأقول :
منها : من أكل شاكًا في طلوع الفجر فصار طالعًا فصومه صحيح ؛ لأن الأصل بقاء الليل والفجر مشكوك فيه ، والأصل بقاء ما كان على ما كان فالليل ثابت في الماضي فهو ثابت الآن(1) .
ومنها : من أفطر شاكًا في غروب الشمس فصومه باطل ؛ لأن الأصل بقاء النهار والغروب مشكوك فيه ، والأصل بقاء ما كان على ما كان فالنهار ثابت في الماضي فهو ثابت الآن(2) .
ومنها : من شك في الطلاق فهو باقٍ على نكاحه ؛ لأن النكاح قد كان في الحالة الماضية والطلاق مشكوك فيه ، والأصل بقاء ما كان على ما كان فالنكاح ثابت في الماضي فهو ثابت الآن .
ومنها : من طلق وشك في الرجعة فهو باقٍ على طلاقه ؛ لأن الطلاق قد كان في الحالة الماضية والرجعة مشكوك فيها ، والأصل بقاء ما كان على ما كان فالطلاق ثابت في الماضي فهو ثابت الآن .
ومنها : تطهر لصلاة العصر وشك في الحدث عند إرادة صلاة المغرب فهو متطهر الآن ؛ لأن الحالة الماضية هي الطهارة فنستصحب الحالة الماضية في الحالة الراهنة ؛ لأن الأصل هو بقاء ما كان على ما كان .
ومنها : من أحدث يقينًا وشك في الطهارة والحكم فيها كما مضى فهو الآن محدث استصحابًا للحال السابقة لهذا الأصل الذي قررناه .
ومنها : إذا اتهم رجل بتهمةٍ ما فالأصل أنه بريء منها ؛ لأن ذمته كانت بريئة فهي الآن بريئة ؛ لأن الأصل بقاء ما ثبت في الزمان الماضي في الزمان الحاضر ومن ادعى خلاف ذلك فهو مطالب بالدليل .
إذاً : كل شيء تيقنا ثبوته في الماضي فهو ثابت في الحاضر إلا إذا جاء يقين بخلافه ، وكل شيء تيقنا زواله في الماضي فهو زائل الآن إلا إذا جاء ما يغير الحال الماضية ، ومن ادعى خلاف الحال الماضية فعليه الدليل لأنه ناقل عن الأصل ، والدليل يطلب من الناقل عن الأصل فمن قال لما كان منفيًا هو ثابت فعليه الدليل ، ومن قال لما كان ثابتاً هو منفي فعليه الدليل ، والله تعالى أعلى وأعلم .