يقول الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في شرح ثلاثة الأصول :
السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط :
الشرط الأول : أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات .
الشرط الثاني : أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات .
الشرط الثالث : أن يكون محتاجاً إلى ذلك .
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة و فيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار .
أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده و كان عنده علم و دين على ما وصفنا فهذا لا بأس به .
و أما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة و بإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام ، و بلادنا الآن و الحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق فبإمكانه أن يذهب إليها و يقضي زمن إجازته فيها .
و أما الإقامة في بلاد الكفار فإن خطرها عظيم على دين المسلم ، و أخلاقه ، و سلوكه ، و آدابه و قد شاهدنا و غيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به ، رجعوا فُسّاقاً ، و بعضهم رجع مرتداً عن دينه و كافراً به و بسائر الأديان – و العياذ بالله – حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين و أهله السابقين منهم و اللاحقين ، و لهذا ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك و وضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك .
فالإقامة في بلاد الكفار لابد فيها من شرطين أساسين :
الشرط الأول : أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم و الإيمان، و قوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه و الحذر و الانحراف و الزيغ ، و أن يكون مضمراً لعداوة الكافرين و بغضهم مبتعداً عن موالاتهم ، و حبهم فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان بالله : { لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } و قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) } و ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه و سلم – (( أن من أحب قوماً فهو منهم، و أن المرء مع من أحب )) .
و محبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم و اتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي - صلى الله عليه و سلم – (( من أحب قوما فهو منهم )) .
الشرط الثاني : أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يمنع من إقامة الصلاة و الجمعة و الجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ويقيم الجمعة ، و لا يمنع من الزكاة و الصيام و الحج و غيرها من شعائر الدين ، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ ، قال في المغني ( ص 457ج 8 ) في الكلام على أقسام الناس في الهجرة : أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها و لا يمكنه إظهار دينه ، و لا تمكنه من إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) } و هذا وعيد شديد يدل على الوجوب ، و لأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه ، و الهجرة من ضرورة الواجب و تتمته ، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . اهـ
و بعد تمام هذين الشرطين الأساسين تنقسم الإقامة في دار الكفار إلى أقسام :
القسم الأول : أن يقيم للدعوة إلى الإسلام و الترغيب فيه فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها ، بشرط أن تتحق الدعوة و أن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها ، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين و هي طريقة المرسلين و قد أمر النبي – صلى الله عليه و سلم – بالتبليغ عنه في كل زمان و مكان فقال – صلى الله عليه و سلم - : (( بلغوا عني و لو آية )) .
القسم الثاني : أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين و التعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة و بطلان التعبد ، و انحلال الأخلاق ، و فوضوية السلوك ؛ ليحذر الناس من الاغترار بهم ، و يبيّن للمعجبين بهم حقيقة حالهم ، و هذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر و أهله المتضمن للترغيب في الإسلام و هديه ، لأن فساد الكفر دليل عللا صلاح الإسلام ، كما قيل : و بضدها تتبين الأشياء . لكن لابد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه ، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه و التحذير منه فلا فائدة من إقامته ، و إن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام و رسول الإسلام و أئمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108 ) } .و يشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عيناً للمسلمين ؛ ليعرف ما يدبروه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون ، كما أرسل النبي – صلى الله عليه و سلم – حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم .
القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دول الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلا يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه ، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندريء بها شر كبير.
القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة ، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفر للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الخامس : أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً دين المقيم وأخلاقه ، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه ، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل ، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال . والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم ، ومن اجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر .
مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروطه:
الشرط الأول : أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد فأما بعث الأحداث " صغار السن " وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم ، وخلقهم ، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع فإن كثيرا من أولئكم المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به ، رجعوا منحرفين في دياناتهم ، وأخلاقهم ، وسلوكهم ، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية .
الشرط الثاني : أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل ، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقا أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل .
وفي الدعاء المأثور " اللهم أرني الحق حقا وارزقني إتباعه ، وارني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه ، ولا تجعله ملتبسا علي فأضل ".
الشرط الثالث : أن يكون عند الطالب دين يحميه و يتحصن به من الكفر والفسوق ، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم ، فأسباب الكفر والفسوق هناك قويه وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلا ضعيف المقاومة عملت عملها .
الشرط الرابع : أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من اجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من اجله لما فيه الإقامة من الخطر على ا لدين والأخلاق ، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة .
القسم السادس : أن يقيم للسكن وهذا اخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة ، وموالاة ، وتكثير لسواد الكفار ، ويتربى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد ولذلك جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم - :(( من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله )) . وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة ، وعن قيس بن جازم عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا يا رسول الله ولم؟ قال : لا تراءي نارهم )) .
رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن حازم عن حديث قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال الترمذي سمعت محمدا - يعني البخاري - يقول الصحيح حديث قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مرسل ا هـ . وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به ، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم .
هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقا للحق والصواب .