قيمة الوقت عند العلماء
نقل عن عامر بن عبد قيس أحد التابعين الزهاد: أن رجلا قال له: كلمني، فقال له عامر بن عبد قيس: أمسك الشمس.
وقال عبد الله بن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
وقال عمر بن عبد العزيز الخليفة الصالح: إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما.
وقال الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك.
وقال: أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم.
ونقل الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة الإمام المحدث حماد بن سلمة البصري البزاز الخرقي عن موسى بن إسماعيل التبوذكي: لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكا لصدقت، كان مشغولا: إما أن يحدث أو يقرأ أو يسبح أو يصلي، وقد قسم النهار على ذلك. قال يونس المؤدب: مات حماد بن سلمة وهو في الصلاة.
وقال أبو هلال العسكري في كتابه الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه: كان الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري أحد أذكياء العالم، المولود سنة 100، والمتوفى سنة 170 رحمه الله تعالى يقول: أثقل الساعات علي: ساعة آكل فيها.
وقال العلامة طاشكبري زاده في مفتاح السعادة ومصباح السيادة: كان محمد بن الحسن الشيباني الكوفي البغدادي الإمام الفقيه المجتهد المحدث تلميذ أبي حنيفة، المولود سنة 132 والمتوفى سنة 189 رحمه الله تعالى لا ينام الليل، وكان يضع عنده دفاتر- يعني كتبا- فإذا مل من نوع نظر في آخر، وكان يزيل نومه بالماء ويقول: إن النوم من الحرارة.
وهذا محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري المتوفى سنة 227 ، كان في حال الطلب جالسا في مجلس الإملاء، والشيخ يحدث ويملي، فانكسر قلم محمد بن سلام فأمر أن ينادى: قلم بدينار، فتطايرت إليه الإقلام. ذكره العيني في عمدة القاري.
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمار بن رجاء قال: سمعت عبيد بن يعيش يقول: أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث.
وجاء في ترتيب المدارك للقاضي عياض في ترجمة الفقيه المالكي المحدث الإمام محمد سحنون القيرواني المولود سنة 202 والمتوفى سنة 256 رحمه الله تعالى ، قال المالكي: كانت لمحمد بن سحنون سرية- أي جارية مملوكة- يقال لها أم مدام، فكان عندها يوما، وقد شغل في تأليف كتاب إلى الليل، فحضر الطعام فاستأذنته فقال لها: أنا مشغول عنه الساعة.
فلما طال عليها الانتظار جعلت تلقمه الطعام حتى أتى عليه، وتمادى هو على ما هو فيه إلى أن أذن لصلاة الصبح، فقال شغلنا عنك الليلة يا أم مدام، هات ما عندك، فقالت: قد والله يا سيدي ألقمته لك، فقال: ما شعرت بذلك.
وقال أبو هلال العسكري في كتابه الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه: وحكي عن ثعلب- أحمد بن يحي الشيباني الكوفي البغدادي، أحد أئمة النحو واللغة والأدب والحديث الشريف والقراءات، المولود سنة 200 والمتوفى سنة291 رحمه الله تعالى أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة شرط عليه أن يوسع له مقدار مسورة- هي المتكأ من الجلد – يضع فيها كتابا ويقرأ.
وفي معجم الأدباء لياقوت الحموي وتاريخ بغداد للحافظ الخطيب البغدادي أن أبا جعفر الطري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، وأملاه في سبع سنين.
ثم قال لهم: أتنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير، فأجابوا بمثل ذلك، فقال: إنا لله، ماتت الهمم، فاختصره في نحو مما اختصر التفسير.
قال الخطيب: وسمعت السمسِمي يحكي أن ابن جرير مكث أربعين سنة، يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.
وذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ عن أحمد بن مردويه قال: كان أبو نعيم في وقته مرحولا إليه، لم يكن في أفق من الآفاق أحد أحفظ منه، ولا أسند منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة أحد منهم، يقرأ ما يريد إلى قريب الظهر، فإذا قام إلى داره ربما يقرأ عليه في الطريق جزء، وكان لا يضجر، لم يكن له غذاء سوى التسميع والتصنيف.
وذكر الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة الخطيب البغدادي المولود سنة 392 والموفى سنة 463 ، قال: كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه.
واكن أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين.
قال: وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبظ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفرا على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها فيه.
وهو صاحب كتاب الفنون وهو في ثمانمائة مجلد، قال فيه: أما بعد فإن خير ما قطع به الوقت وشغلت به النفس فتقرب به إلى الرب جلت عظمته: طلب علم أخرج من ظلمة الجهل إلى نور الشرع، وذلك الذي شغلت به نفسي وقطعت به وقتي.
فما أزال أعلق ما أستفيده من ألفاظ العلماء، ومن بطون الصحائف ومن صيد الخواطر التي تنثرها المناظرات والمقابسات في مجالس العلماء ومجامع الفضلاء، طمعا أن يعلق بي طرف من الفضل أبعد به عن الجهل، لعلي أصل إلى بعض ما وصل إليه الرجال قبلي.
ولو لم يكن من فائدته عاجلا إلا تنظيف الوقت عن الاشتغال برعونات الطباع، التي تنقطع بها أوقات الرعاع، لكفى، وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
يقول بهاء الدين ابن النحاس كما في بغية الوعاة للسيوطي:
اليوم شيء وغدا مثله من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط
قال ابن الجوزي رحمه الله:
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور، بما لا يعجز عنه البدن من العمل، كما جاء في الحديث الشريف: نية المؤمن خير من عمله.
وقال رحمه الله في رسالة نصح بها ولده سماها: لفتة الكبد في نصيحة الولد، قال:
واعلم يا بني أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاسا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم.
وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعودها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك ايوم الوصول إليه.