بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قبل بصحيح النية حسن العمل، وحمل الضعيف المنقطع على مراسيل لطفه فاتصل، ورفع من أسند في بابه، ووقف من شذ عن جنابه وانفصل، ووصل مقاطيع حبه وأدرجهم في سلسلة حزبه، فسكنت نفوسهم عن الاضطراب والعلل، فموضوعهم لا يكون محمولا، ومقلوبهم لا يكون مقبولا ولا يحتمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الفرد في الأزل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله والدين غريب فأصبح عزيزا مشهورا واكتمل، وأوضح به معضلات الأمور وأزال به منكرات الدهور الأول، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم ما علا إسناد ونزل، وطلع نجم وأفل.
وبعد، فعلم الحديث خطير وقعه، كثير نفعه، عليه مدار أكثر الأحكام، وبه يعرف الحلال والحرام، ولأهله اصطلاح لا بد للطالب من فهمه، فلهذا ندب إلى تقديم العناية بكتاب في علمه( )، يكشف له عن مهماته، وينير له درب طريقه، وقد وجدت كتاب التذكرة في علوم الحديث للإمام الهمام أبي حفص عمر بن أبي الحسن الأنصاري الشافعي النحوي، الشهير بابن الملقن رحمه الله، من أنفع المختصرات في بابه، وأدقها في تعابيره وأوصافه، فوضعت لها هذا الشرح المختصر، ليحل ألفاظها، مع بعض الزيادات والفوائد التي تأتي في بابها.
والله أسأل، أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وسببا في دخول جنات النعيم.
قوله(بسم الله الرحمن الرحيم)
(الله أحمد على نعمائه)
قوه(وأشكره على آلائه)
قوله(وأصلي على أشرف الخلق محمد، وآله وأسلم)
(وبعد)
فهذه تذكرة في علوم الحديث، يتنبه بها المبتدي، ويتبصر بها المنتهي، اقتضبتها من المقنع تأليفي.
وإلى الله أرغب في النفع بها، إنه بيده، والقادر عليه.
قوله(أقسام الحديث ثلاثة: صحيح وحسن وصحيح)
هذا ما استقر عليه قول العلماء وأجمعوا عليه، وهو تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، وقد نقله غير واحد عن أهل الحديث، منهم الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله في كتابه الماتع: معالم السنن( )، وكذا الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في مقدمته، وتابعه الناس على ذلك ممن اختصر كتابه هذا أو نظمه، كالإمام الزاهد شرف الدين أبي يحي النووي رحمه الله، والإمام المفسر أبي الفداء ابن كثير في مختصره، والحافظ بدر الدين ابن جماعة في المنهل الراوي والإمام العراقي في التبصرة والتذكرة والسيوطي في الألفية وغيرهم رحم الله الجميع.
وأول من عرف بهذا التقسيم الثلاثي هو الإمام الأوحد الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فهذا أول من عرف أنه قسمه هذه القسمة أبو عيسى الترمذي، ولم نعرف هذه القسمة عن أحد قبله( ).
وهذا لا يعكر عليه وجود بعض الأئمة الحفاظ ذكروا لفظ الحسن قبل زمان الترمذي وأيضا ممن عاصره، وأخص بالذكر إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله والشافعي وأحمد والبخاري وابن معين وابن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وغيرهم، لأن المقصود أن الترمذي هو أوا من عرفه تعريفا اصطلاحيا، ولذلك لم يأت عن أحد من الأئمة الذين سبقت الإشارة إليهم أنه عرف الحسن بالتعريف الاصطلاحي، ولو كان لنقل إلينا لا محالة، والمراد هنا، ما ذكره الترمذي رحمه الله في كتابه العلل الصغير حيث قال: وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حسن عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو حديث حسن.
وسيأتي إن شاء الله مزيد بحث في باب الحسن.
قوله(فالصحيح ما سلم من الطعن في سنده ومتنه)
الصحيح لغة: السليم من المرض، أو هو ضد السقيم، واصطلاحا عبر عنه المصنف رحمه الله بأنه: ما سلم من الطعن في سنده ومتنه، وهذا من حيث الإجمال، أما من حيث التفصيل فهو: ما اتصل سنده بنقل العدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة( ).
فهذا هو الحديث الذي يحكم بصحته بلا خلاف بين أهل الحديث( ).
فحاصل ما تقدم أن الحديث الصحيح يتوقف على خمسة شروط لا بد من توفرها فيه، وهي:
1. اتصال السند
2. عدالة الرواة
3. ضبط الرواة
4. نفي الشذوذ
5. نفي العلة.
وبمعنى آخر، لا بد من إثبات الشروط الثلاثة الأولى، ونفي الشرطين الأخيرين.
وهذا ملخصها:
الشرط الأول: اتصال السند: الاتصال ضد الانقطاع، والمراد به أن يكون كل راو من رواة السند قد سمع ذلك المروي من شيخه، إلى أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من دونه.
فخرج بذلك حميع أنواع الانقطاع، بما في ذلك: المعضل والممنقطع والمدلس والمعلق والمرسل الخفي من معاصر لم يلق من حدث عنه.
الشرط الثاني: عدالة الرواة: والعدالة هي ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى ومجانبة أسباب الفسق وخوارم المروءة.
والمقصود بالملكة: الصفة الراسخة، أو هي شيء جبلي طبيعي في الإنسان.
والمراد بملازمة التقوى: فعل الأوامر واجتناب النواهي.
والمراد بالمروءة: هي آداب نفسانية تحمل مراعاتها على التحلي بمحاسن الأخلاق وجميل العادات، ويرجع في معرفتها إلى العرف، فيختلف باختلاف الأشخاص والبلدان، فكم من بلد جرت عادة أهله بمباشرة أمور لو باشرها غيرهم كان خرما للمروءة( ).
الشرط الثالث: ضبط الرواة: وهو التيقظ حالتي التحمل والأداء، وهو نوعان:
" ضبط صدر: وهو أن يثبت الراوي ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
وضبط كتاب: وهو صيانته منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه "( ).
الشرط الرابع: نفي الشذوذ: وهو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، وله تعاريف أخرى سيأتي ذكرها إن شاء الله.
الشرط الخامس: نفي العلة: وهي عبارة عن سبب خفي غامض يقدح في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منه، وسيأتي إن شاء الله شرحها.
قوله(ومنه المتفق عليه، وهو ما أودعه الشيخان في صحيحيهما)
أي أن من أقسام الحديث الصحيح ما هو متفق عليه بين البخاري ومسلم، وهنا مباحث:
المبحث الأول: أول من اعتنى بجمع الحديث النبوي محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري بأمر من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحم الله الجميع، وقد أشار إلى هذا السيوطي رحمه الله في ألفيه، حيث قال:
أول جامع الحديث والأثر ابن شهاب آمرا له عمر( )
المبحث الثاني: أول من صنف في الصحيح المجرد هو الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، ثم بعده تلميذه الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، وهما أصح الكتب باتفاق العلماء كما قال النووي رحمه الله في مقدمة شرح مسلم، على خلاف في الترجيح بين البخاري ومسلم، فذهب الجمهور إلى تقديم البخاري على مسلم، وهو ما رجحه كثير من المحققين من أهل العلم كابن الصلاح والنووي والحافظ ابن حجر رحم الله الجميع.
وسبب هذا الترجيح يرجع إلى بعض القرائن التي امتاز بها صحيح البخاري على صحيح مسلم، وقد ذكرها الحافظ السيوطي رحمه الله في شرح التقريب وهي كالتالي:
أحدها: أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثين رجلا، المتكلم فيهم بالضعف منهم ثمانون رجلا، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا، المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون.
ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه، إن لم يكن ذلك الكلام قادحا.
ثانيها: أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم ، وليس لواحد منهم نسخة كثيرة أخرجها كلها أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس ، بخلاف مسلم، فإنه أخرج أكثر تلك ، النسخ ؛ كأبي الزبير عن جابر ، وسهيل عن أبيه ، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، وحماد بن سلمة عن ثابت ، وغير ذلك.
ثالثها: إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيهم أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم وعرف جيدها من غيره . بخلاف مسلم فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه ممن تقدم عن عصره من التابعين فمن بعدهم ، ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيفه ممن تقدم عنهم.
رابعها: إن البخاري يخرج عن الطبقة الأولى البالغة في الحفظ الإِتقان ، ويخرج عن طبقة تليها في التثبت وطول الملازمة اتصالا وتعليقاً ، ومسلم يخرج عن هذه الطبقة أصولاً كما قرره الحازمي.
خامسها: إن مسلما يرى أن للمعنعن حكم الاتصال إذا تعاصرا وإن لم يثبت اللقى ، والبخاري لا يرى ذلك حتى يثبت كما سيأتي ، وربما أخرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب أصلاً ، إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه أخرج له قبل ذلك معنعناً .
سادسها: إن الأحاديث التي انتقدت عليهما نحو مائتي حديث وعشرة أحاديث كما سيأتي أيضاً ، اختص البخاري منها بأقل من ثمانين ، ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر . وقال المصنف في شرح البخاري : من أخص ما يرجح به كتاب البخاري اتفاق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم وأصدق بمعرفة الحديث ودقائقه ، وقد انتخب علمه ولخص ما ارتضاه في هذا الكتاب ، وقال شيخ الإِسلام : اتفق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم في العلوم وأعرف بصناعة الحديث ، وأن مسلما تلميذه وخِريجه، ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره ، حتى قال الدارقطني : لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء( ) .
المبحث الثالث: من بين الأمور التي اهتم بها العلماء فيما يتعلق بالصحيح، الكلام على أصح الأسانيد، فاختلفت أقوال العلماء في ذلك اختلافا بينا، وكل منهم ذكر ما أدى إليه اجتهاده في هذه المسألة، والذي رجحه المحققون من أهل العلم تقييد أصح الأسانيد بالصحابي مثلا أو البلد، فيقال: أصح الأسانيد عن ابن عمر، أصح الأسانيد عن ابن مسعود، ... وهكذا.
قال الإمام الحاكم :إن هؤلاء الأئمة الحفاظ قد ذكر كل ما أدى إليه اجتهاده في أصح الأسانيد، ولكل صحابي رواة من التابعين، ولهم أتباع وأكثرهم ثقات، فلا يمكن أن يقطع الحكم في أصح الأسانيد لصحابي واحد( ).
وقال الحافظ العراقي: لا يصح تعميم الحكم في أصح الأسانيد في ترجمة صحابي واحد، بل ينبغي أن تقيد كل ترجمة منها بصحابيها.
وفي الألفية للسيوطي:
لا ينبغي التعميم في الإسناد بل خص بالصحب أو البلاد
وقال العلامة المحدث أحمد شاكر رحمه الله تعالى: الذي انتهى إليه التحقيق في أصح الأسانيد أنه لا يحكم بذلك مطلقا من غير قيد، بل يتقيد بالصحابي أو البلد( ).
ولذلك يقولون مثلا: أصح الأسانيد عن أبي بكر: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر.
وأصح الأسانيد عن عمر: الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن عمر.
وأصح الأسانيد عن علي: محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي.
وأصح أسانيد اليمانيين: معمر عن همام عن أبي هريرة.
وأثبت أسانيد المصريين: الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر.
وأثبت أسانيد الشامييم: الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة.
وأثبت أسانيد الخرسانيين: الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.
وهكذا، فإن الكلام على أصح الأسانيد لا بد أن يكون مقيدا إما بالصحابي أو بالبلد( ).
وتكمن فائدة معرفة أصح الأسنانيد في:
• الاطمئنان على صحة الحديث.
• أن يكون أحد المرجحات عند الاختلاف.