الشرح:
هذا الباب ذكره الشيخ رحمه الله بعد باب "من جحد شيئا من الأسماء والصفات" لأنه من جنسه، فيه تنقص للربوبية ، فالذي يجحد الأسماء والصفات قد تنقص الربوبية، وكذلك الذي يضيف النعم إلى غير الله سبحانه وتعالى قد تنقص الربوبية .
فهذه الآية التي ذكرها في الترجمة، وهي قوله سبحانه وتعالى: (( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون )) هي من سورة النحل، وسورة النحل تسمى سورة النعم، لأن الله سبحانه وتعالى عدد فيها كثيرا من نعمه على عباده، وقال فيها: (( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ))وأول النعم التي ذكرها الله في هذه السورة نعمة إرسال الرسل، وإنزال الوحي لهداية عباده .
ثم النعمة بخلق الإنسان، وما جعل فيه من الأعضاء الكبيرة والصغيرة الدقيقة، وما جعل فيه من بديع الصنعة .
ثم النعم في خلق بهيمة الأنعام التي فيها الجمال، وفيها منافعهم من الركوب والحمل والألبان واللحوم، وغير ذلك .
وكذلك المراكب البحرية التي تقطع بهم عباب الماء .
وكذلك: ما أنبت في الأرض من صنوف النباتات التي فيها أرزاق العباد وفيها أدويتهم وفيها مراعي لأنعامهم .
وكذلك: ما جعل فيها من العلامات التي يهتدي بها المسافرون في البر والبحر: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ .
ومن ذلك: نعمة المشارب من الماء واللبن والعسل .
وكذلك: نعمة المساكن التي يسكنون فيها فتؤويهم من الحر والبرد، فيتحصنون بها من عدوهم : البيوت الثابتة، والبيوت المتنقلة: (( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ )).
وكذلك نعمة الملابس التي يلبسونها: (( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ))
ملابس الأبدان التي يسترون بها عوراتهم، ويجملون بها هيئاتهم، وملابس الدروع التي تقيهم من سلاح العدو .
كل هذه النعم من الله سبحانه وتعالى .
ثم قال تعالى:(( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ . ))
والمفسرون - رحمهم الله - ذكروا أقوالا في تفسير هذه الآية، وكلها صحيحة، ولا تناقض بينها، لأنها كلها تدخل في نعمة الله، وكل منهم يذكر مثالا من هذه النعم . فأقوال المفسرين لا تناقض بينها، واختلافهم - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - اختلاف تنوع، وليس هو اختلاف تضاد، لأن الآية - أو الآيات - تحتمل عدة معان، فكل واحد من المفسرين يأخذ معنى من هذه المعاني، فإذا جمعتها وجدت أن الآية - أو الآيات - تتضمن هذه المعاني التي قالوها جميعا .
فمنهم من قال: المراد بقوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذه النعمة هي أكبر النعم، ولذلك صدر السورة بذكر بعثة الرسل: (( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ )) وقال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . ))
ومنهم من قال: المراد بالنعمة: كل ما ذكره الله في هذه السورة من أصناف النعم .
لأن قوله: نِعْمَةَ اللَّهِ مفرد مضاف، فيعم جميع النعم، فقوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ أي: يعرفون نعم الله المذكورة في هذه السورة، ولا يجحدونها في قرارة أنفسهم، فيعرفون بقلوبهم أنها من الله، ولكنهم بألسنتهم ينسبونها إلى غير الله سبحانه وتعالى، أو بالعكس؛ يتلفظون بأن هذه النعم من الله ولكنهم في قلوبهم يعتقدون أنها من غيره .
ولهذا يقول العلماء: أركان الشكر ثلاثة لا يصح الشكر إلا بها:
الركن الأول: التحدث بها ظاهرا، كما قال تعالى: (( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ . ))
الركن الثاني: الاعتراف بها باطنا، يعني: تعترف في قرارة نفسك أنها من الله سبحانه وتعالى، فيكون قلبك موافقا للسانك من الاعتراف بأنها من الله .
الركن الثالث: صرفها في طاعة موليها ومسديها وهو الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن تستعين بها على طاعة الله، فإن استعنت بها على معصية الله فإنك لا تكون شاكرا لها .
ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا المراد بإنكارها: جحودها، إما باللسان وإما بالقلب، بأن تنسب إلى غير من أنعم بها، إما أن تنسب إلى الأسباب، وإما أن تنسب إلى الأصنام والآلهة، وإما أن تنسب إلى الآباء والأجداد، وإما أن تنسب إلى كد العبد وكسبه وحذقه ومعرفته، وإما بصرفها في معصية الله .
فما ذكره الشيخ رحمه الله في هذا الباب إنما هو أمثلة لكفران النعمة .
قوله: "قال مجاهد وهو مجاهد بن جبر ، الإمام التابعي الجليل ، يفسر الآية بقول الرجل: "هذا مالي ورثته عن آبائي" فلا ينسب حصول المال إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما ينسبه إلى آبائه وأجداده .
وكذلك إذا نسبه إلى كده وكسبه وحذقه ومعرفته، فإن هذا جحود لنعمة الله، لأن المال فضل من الله سبحانه وتعالى ، أما الحذق والكسب ومعرفة الصنعة فهذه أسباب قد تنتج مسبباتها وقد لا تنتج، فكم من حاذق وكم من عالم وكم من صانع يحرم من الرزق ولا تغنيه صنعته شيئا، فهذا فضل من الله سبحانه وتعالى، وأما هذه فهي أسباب إن شاء الله نفعت وإن شاء لم تنفع .
قوله: "وقال عون بن عبد الله هو: عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي : إمام جليل .
"يقولون: لولا فلان لم يكن كذا" وهذا لا يجوز، لأن فيه نسبة النعمة إلى غير الله، والذي يجوز ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، أن تقول: (لولا الله، ثم فلان)، لأنك نسبت النعمة إلى الله، وذكرت أن فلانا إنما هو سبب فقط، لأن (ثم) للترتيب والتعقيب .
قوله: "وقال 126 ابن قتيبة ابن قتيبة هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، إمام في النحو، واللغة، والتفسير، وله كتب مشهورة، منها: "كتاب التفسير" وكتاب "المعارف" .
"يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا" يعني: يقول المشركون: هذا الذي حصل من الخير ومن النفع إنما هو بشفاعة آلهتنا . يعني: أن آلهتهم شفعت عند الله في حصولها، لأن المشركين الذين يعبدون غير الله لا يعتقدون أن معبوداتهم هي التي تخلق وترزق، وإنما يعبدونها لاعتقاد أنها تشفع لهم عند الله، كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ وقوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فهم يعتقدون أن هذه المعبودات تشفع لهم عند الله، وهذا كذب، لأن الله بين الشفاعة الصحيحة، وهي ما توفر فيها شرطان: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التوحيد .
والمشركون يتقربون بأنواع القربات إلى هذه الأوثان، ويذبحون لها، وينذرون لها، ويطوفون بها، ويقولون: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ مثل حالة عباد القبور اليوم، يذبحون للقبور، وينذرون للقبور، ويهتفون بها، ويستغيثون بها، ويستصرخون بها، ويقولون: نحن لا نعتقد أنها تخلق وترزق، إنما هي شفعاء عند الله . وكذبوا في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى لا يرضى بهذه الشفاعة، ولم يتخذ هؤلاء شفعاء عنده سبحانه وتعالى .
ومن ذلك قولهم: هذا بشفاعة آلهتنا . يقولون: إن هذه النعم إنما هي بسبب آلهتنا وبشفاعتها عند الله، كما يقول القبوري: هذا بسبب الولي فلان، بسبب عبد القادر ، بسبب العيدروس ، بسبب البدوي ، وهذا يدخل في قوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا بمعنى: أنهم ينسبون نعمة الله إلى هذه المعبودات من دون الله عز وجل . فهذه طريقة المشركين قديما وحديثا .
قوله: "قال أبو العباس أبو العباس كنية شيخ الإسلام أحمد بن تيمية .
"بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: أن الله سبحانه وتعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب . وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب .
ثم قال أبو العباس رحمه الله: "يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به" فكل من أضاف نعم الله إلى غيره فقد كفر نعمة الله، وأشرك به .
وهذا الشرك وكفر النعمة ليس من الكفر والشرك المخرج من الملة، إذا كان الإنسان يعتقد أن إضافة النعمة إلى الشيء من إضافة المسبب إلى سببه، وإنما المنعم هو الله، وأضافها إلى السبب مجرد مجاز، فهذا كفر أصغر .
أما إذا اعتقد أن النعم من إحداث المخلوق ومن صنع المخلوق، فإن هذا كفر أكبر يخرج من الملة .
فالواجب أن تضاف النعم إلى الله سبحانه وتعالى .
فكل من أضاف النعمة إلى غير الله، فإن هذا كفر بالله، إما أن يكون كفرا أكبر، وإما أن يكون كفرا أصغر، بحسب ما يقوم باعتقاد الشخص وقرارة نفسه، فليحاسب الإنسان نفسه عند ذلك .
ومن ذلك: ما يجري على ألسنة بعض الصحفيين وكثير من الإعلاميين الذين ينسبون الأشياء إلى أسبابها، فيقولون: (المطر ناتج عن انخفاض جوي، أو عن المناخ) وما أشبه ذلك . فالذي يضيف المطر إلى وقته أو إلى الكوكب أو إلى النوء، فهو من هذا الباب، كما في حديث زيد بن خالد : ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ) نعم: المناخ أو الانخفاض الجوي سبب، لكن الذي ينزل المطر ويكون المطر هو الله سبحانه وتعالى، ليس لهذه الأسباب تدخل في إيجاد المطر أو إحداث المطر .
وقد حصل - ويحصل - أن هناك مناخات كانت تهطل فيها الأمطار بكثرة، ولكن يأتي وقت من الأوقات تقفر هذه المناخات وتجدب، فكثير من القارات وإن كانت معروفة بكثرة المطر وتواصل المطر عليها يحصل فيها الجدب، كما يقولون عنه: الجفاف، في أمريكا وفي أوروبا وفي أفريقيا حصل جفاف كثير، وهلكت خلائق كثيرة من الأموال ومن الأنفس، وما نفعهم المناخ، هذا بيد الله سبحانه وتعالى، وفي تقدير الله سبحانه وتعالى .
قال المصنف: "قال بعض السلف " المراد بالسلف : القرون المفضلة، وصدر هذه الأمة، وهم محل القدوة، لقرب عهدهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكرام .
وأما من جاء بعدهم فيقال لهم: الخلف ، فمن كان من الخلف يسير على منهج السلف فهو لاحق بهم، ومن تخلف عن منهج السلف فإنه هالك، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ويقول سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ
قوله: "هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا" يعني أن من إنكارهم لنعمة الله أنهم إذا ساروا في البحر في السفن التي كانت تسير بالريح إذا نجوا من البحر وخرجوا إلى البر يثنون على الريح وعلى الملاح، ولا يقولون: هذا بفضل الله، بل يقولون: كانت الريح التي حملت السفينة طيبة .
"وكان الملاح حاذقا" الملاح هو: قائد السفينة، سمي ملاحا لملازمته للماء الملح، لأن مياه البحار مالحة، فالذي يقود السفينة يقال له: ملاح، لأنه يسير على الماء الملح، والحاذق: الذي يجيد المهنة .
وكان الواجب عليهم أن يقولوا: إن الله هو الذي نجانا، وهو الذي سخر لنا الريح الطيبة، وهو الذي أقدر قائد السفينة وألهمه أن يقودها إلى بر السلامة . أما أن يقولوا: إن نجاتنا وخروجنا إلى البر بسبب طيب الريح وحذق القائد، فهذا كفر بنعمة الله سبحانه وتعالى .
وقوله: "ونحو ذلك مما يجري على ألسنة كثير" يعني: نحو هذه الألفاظ مما يجري على ألسنة كثير من الناس من نسبة النعم إلى غير الله سبحانه وتعالى، إما من باب التساهل في التعبير، وإما من باب سوء الاعتقاد، فإن كان من سوء الاعتقاد فهو كفر يخرج من الملة، وإن كان من باب الإساءة في التعبير مع الاعتقاد بأن الله هو الذي أوجد هذا الشيء: فهذا كفر أصغر، يسمى بكفر النعمة .
فهذا الباب باب جليل لأنه يعالج مشكلة يقع فيها كثير من الناس ولا يحسبون لها حسابا، ويتكلمون بكلام يظنونه هينا وهو عند الله عظيم: حيث إنهم ينسبون نعم الله تعالى إلى غيره، ولا يشكرون الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: "ونحو ذلك مما يجري على ألسنة كثير" فهذا تنبيه لنا أن لا نقع في هذه المزالق، حتى إن ابن عباس رضي الله عنه فسر قوله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال: هو قول الرجل: (لولا الله وفلان)، (ما شاء الله وشئت)، (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص)، (لولا البط في الدار لأتانا اللصوص)، وما أشبه ذلك من الألفاظ، وعد هذا من اتخاذ الأنداد لله تعالى