الحمد لله الذي هدانا لدينه القويم، ومن علينا ببعثة هذا النبي الكريم، وهدانا به إلى الصراط المستقيم، أحمده سبحانه على نعمه الغزار وأشكره على جوده المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الواحد القهار وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في الجهر والنجوى، واشكروه أن منّ عليكم بالهداية لدين الإسلام، وجعلكم من أمة خير الأنام، الذي بعثه الله بالهُدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
أرسله بالآيات البينات، والمعجزات الواضحات، أنزل عليه هذا القرآن العظيم، الذي هو هُدى وشفاء لما في الصدور، إنه شفاء لأمراض القلوب من الشكوك والشبهات، والمعاصي والشهوات، والجَور والجهالات، إنه النور الذي يضيء لك الطريق، ويهديك للتحقيق، ((إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيراً))[الإسراء:9].
لقد أنزل الله تعالى هذا القرآن العظيم على أفضل رسله، وخير أنبيائه محمد - صلى الله عليه و سلم -، وأمرنا بالتأسي به - صلى الله عليه و سلم -، واتباع هديه، والتمسك بسنته، يقول عز وجل: ((لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً))[الأحزاب:21].
إنه القدوة في كل شيء، إذ لا خير إلا دلّ الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، لقد دعا - صلى الله عليه و سلم - إلى كل خير بأفعاله وأقواله وتقريراته، وإن الله تعالى قد ملأ به القلوب علماً ويقيناً وإيماناً، وشمل به العباد عدلاً ورحمة وحناناً، طهّر الله به الأخلاق من جميع الرذائل، واستكملت به جميع الفضائل، استبدل المؤمنون به بعد الشرك إخلاصاً لله وتوحيداً، وبعد الانحراف عن الحق هداية واستقامة وتوفيقاً، وبعد الفتن والافتراق ألفةً واعتصاماً، وبعد القطيعة والعقوق براً وصلة وتعاطفاً، وبعد الظلم والجور وسوء المعاملات عدلاً ووفاءً بجميع الحقوق والواجبات.
إنه رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، جعل الله به بعد الفساد صلاحاً، وبعد الشقاء فلاحاً، إن شريعته السمحة وتعاليمه القيمة هي الكفيلة بجمع الشمل، واستتباب الأمن، وحصول الطمأنينة، وهذه حال المسلمين حينما كانوا مطبقين لها، عاملين بها، مستضيئين بنورها، فلما استبدل كثير منهم بنور الوحيين سواهما، وانفصلوا أو كادوا ينفصلون من حبله المتين، وتقاطعوا وتدابروا وتباغضوا وتنافروا، وضعفت فيهم الغيرة الدينية، والأخوة الإيمانية، وتباينت الآراء، وكثرت الأهواء، وأعجب كل ذي رأي برأيه، ورأى أن الحق فيما يراه ويهواه، واكتفى كثير منهم من دينهم بالمظاهر عن الحقائق، فجاءهم ما كانوا يوعدون، وتكالب عليهم الأعداء، وتشتت الأصدقاء، فلم يزالوا في بُعد وافتراق، وتنازع وشقاق، نتج عن هذا ضعف البصيرة في الدين، والإعراض عن سنة سيد المرسلين.
فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بسنة نبيكم تفلحوا، وإياكم والمحدثات في الدين، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله:
إن مما أحدثه بعض الناس هذه الأعياد التي يسمونها أعياد الموالِد، وليس في الإسلام سوى عيد الفطر وعيد الأضحى، وإن هذه الأعياد التي أُحدثت بعد القرون المفضلة كلها من الأمور المحدثة، دخلت على هذه الأمة بسبب المتابعة لأهل الكتاب، والتأثر بهم وتقليدهم، ولقد حذرنا - صلى الله عليه و سلم - من ذلك، وأخبر أن هذه الأمة لا بد وأن تعمل عملهم، فقد قال - صلى الله عليه و سلم -: ((لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القُذّة بالقذة، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه))، والنبي - صلى الله عليه و سلم - يخبرنا بما سيكون تخويفاً وتحذيراً لنا من متابعتهم.
وإن مما أَحدث بعض الناس في هذا الشهر من المحدثات الاحتفاء بمولده - صلى الله عليه و سلم - مشابهة لأهل الكتاب في إقامة عيد ميلاد المسيح عليه السلام، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء رحمهم الله.
وإن مما لا شك فيه أن الاحتفال بمولده - صلى الله عليه و سلم - لا يزيده شرفاً ولا رفعةً، فإن شرفه وفضله في القمة بين البشر أجمعين، فهو سيد الأولين والآخرين، وأكرم الخلق على رب العالمين، وإن محبته - صلى الله عليه و سلم - دين يدان الله بها، ولا يصح إسلام المرء حتى يحب نبيه - صلى الله عليه و سلم -، ولا يكمل إيمانه حتى يكون الرسول - صلى الله عليه و سلم - أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، بل حتى يكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، كما في قصة عمر رضي الله عنه.
ومن المعلوم أن سلف هذه الأمة أكمل وأتمّ محبة منا له -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك لم يفعلوا شيئاً من هذه الاحتفالات، بل حذروا ونهوا عنها لعدم الدليل على مشروعيتها، وليس عنوان المحبة بإقامة الاحتفال بمولده - صلى الله عليه و سلم -، ولكن محبته باتباع أمره، والاهتداء بهديه، والاقتداء بسنته، وتفهم سيرته كل وقت وحين، وسلوك طريقته التي كان عليها هو - صلى الله عليه و سلم - وأصحابه، ومتابعته على ذلك.
فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بكتاب ربكم تهتدوا، واعملوا بسنة نبيكم تفلحوا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ))[الحشر:7].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن هذا الشهر، شهر ربيع الأول قد كان فيه مولده - صلى الله عليه و سلم -، وفيه هجرته ووفاته، فلا يجوز أن نجعله موسماً للأفراح، ولا للأتراح، بل الواجب أن نتذكر حالته - صلى الله عليه و سلم - على الدوام، وأن نقتدي به في قيامه بعبادة ربه، ودعوته إلى دين الله، وتبليغ رسالة ربه، وجهاده في سبيل إعلاء كلمة الله، حتى أكمل الله به الدين، وأتمّ به النعمة على الخلق أجمعين، فلتقتدوا به - صلى الله عليه و سلم - في أقواله وأفعاله، فذلك سبب محبته لكم ومغفرته تعالى لذنوبكم، كما قال عز وجل: ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))[آل عمران:21].
فاتقوا الله عباد الله، وامتثلوا أمر ربكم، واقتدوا بهدي نبيكم - صلى الله عليه و سلم - تفلحوا وتسعدوا.
وصلوا وسلموا على الهادي النذير والسراج المنير، كما أمركم بذلك ربكم في محكم التنزيل بقوله عز من قائل عليم: ((إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد أزكى البرية أجمعين ورسول رب العالمين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع كلمة الحق والدين، وانصر عبادك المؤمنين، واحفظ إمامنا بحفظك ووفقه لهداك واجعل عملهم في رضاك وأيده بتأييدك وأعز به دينك يا رب العالمين، اللهم كن له على الحق مؤيدًا ونصيرًا ومعينًا وظهيرًا. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم كتابك والعمل بسنة نبيك - صلى الله عليه و سلم -، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات. اللهم دمر أعداء الدين وسائر الكفرة المعاندين الذين يصدون عن سبيلك ويعادون أهل دينك. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك وفي نصرة دينك اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصرهم في فلسطين على اليهود الغاصبين، اللهم اشدد وطأتك على اليهود وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا رب العالمين. اللهم انصر كل مضطهد في دينه من المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم سدد سهامهم وآراءهم اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى والبر والتقوى، اللهم مُنَّ عليهم بالاعتصام بحبلك المتين وبشرعك المبين، واتباع سنة خير المرسلين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون) فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.