[size=24]ومما ينفي كونها عروضاً أنها إذا كانت جديدة أو بالية مقطعة متسخة فالقيمة واحدة لا تنقص بقيمتها ولا تزيد بحسنها، والعرض بخلاف ذلك؛ فإنّ قيمته تابعة لأوصافه -كما هو معلوم-، وأنها إذا زورت بطل التعامل بها، وعُزّر من زورها بمثل أو أكثر، مما يعد به مزور رسم العدول.
ويعين أنها رسومُ دَين في الأصل: أن قدر قيمتها الآن تابع لقدر ما في صناديق الذي هي في ذمته من العين الاحتياطي، زيادة ونقصاً، فهي كرسوم الدين سواء بسواء، بل هي هي، وهل يوجد عرض بهذه الصفة، يزيد ثمنه وينقص لغيره، سواء كان صحيحاً سالماً أو متلاشياً؟ كلا ثمّ كلا.
ومن غريب ما يسمع أنّ الذين اخترعوا هذه الأوراق وعملوها معترفون بأنها أوراق دين في ذمتهم ملتزمون بأدائها، وأنتم تقولون لهم إنها ليست ديوناً بل عروضاً! كل هذا نشأ عن عدم اعتناء أهل العلم بأحوال زمنهم وتهورهم في الأحكام قبل تصورهم»(13).
ثم قرّر هذا -رحمه الله- وأكده بأنّ المقرر عند علماء الاقتصاد أنّ هذه الأوراق أنواع ثلاثة: ما له سعر اختياري، وما له سعر قانوني، وما له سعر إلزامي، وقال بعد كلام ما نصّه: «فهي –أي: الأوراق النقديّة- تكون (صكوك دين) في الحالات الثلاث كلها».
ثانياً: عدم جواز بيع الأوراق النقديّة بعضها ببعض مفاضلة ولا بالتأخير:
وهذا هو عنوان (الفصل الأول) في كتاب الحجوي المشار إليه آنفاً، وقال تحته: «إنها صكوك دين، فلا يجوز بيع بعضها ببعض مفاضلة ولا بالتأخير، ولا يجوز بيعها بأحد النقدين كذلك، وأمّا من أباح ذلك وبناه على أنها عروض فلم يحرر مناطاً لمسألة، ولا تصوّر حقيقة تلك الأوراق، وإنما هي صكوك دين، فحكم المعاملة الجارية بين الناس أنها إذا أبدلت بالنقد فهي حوالة تجري على حكمها، فيشترط فيها المماثلة، ولا تجوز المفاضلة مهما اتّحد الجنسان، وتجوز إذا اختلفت كإبدال هذه الأوراق التي في المغرب بالذهب الإنجليزي، وتجب المناجزة، ولا يجوز التأخير سواء اتّحد الجنس أو اختلف».
ومن الأمور المهمة التي لا يجوز لنا أن نتجاوزها ونحن نتكلّم عن هذه المسألة:
ثالثاً: علّة الربا في الذهب والفضّة:
من المعلوم المتّفق عليه الوارد في النصوص الكثيرة (14) قوله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضّة بالفضّة . . . (15) مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يداً بيد».
ووقع خلاف بين العلماء في علّة الربا في الذهب والفضّة، والخلاف واقع بينهم في باقي الأصناف المذكورة في الحديث على وجه أظهر وأشد، ولست بصدد النقل والتفصيل في ذلك (16)، ولكنني أجتزئ على ما يخص موضوعنا،
فأقول وبالله -سبحانه وتعالى- أصول وأجول:
إنّ مسألة الربويات الست لا بدّ من خضوعها لمبحث (تحقيق المناط)، فالست خصّت لحكمة إلهيّة بلا أدنى ريب، وهذه الحكمة لم يكشفها الشرع لنا، لكنّها ضبطت بضوابط عامّة رآها الفقهاء في زمانهم صالحة لنمط حياتهم، على خلاف يسير من حيث الواقع في التنزيل والردّ، مع إحكام أصول المسألة.
ولكنّ الناظر في جزئيّاتها يجد متفرقات جمعت بناءً على هذه القاعدة، وهي لا تستحق هذا الجمع؛ فإلحاق الخشب على الذهب بجامع الوزن، أو الدواء على القمح بجامع الطعم، أو الحِنَّاء على البُر بجامع الكيل؛ لا يستقيم!
والذي أراه -والله أعلم-: إن الإلحاق بهذه الأصناف الست المذكورة في الحديث لا بجامع العلّة، وإنّما بجامع تحقيق -أو ترجح- نفي الفارق المؤثر بينها وبين ما شابهها.
قال العلامة الشنقيطي في «المذكرة» (ص249): «الإلحاق من حيث هو ضربان:
الأول: الإلحاق بنفي الفارق.
والثاني: الإلحاق بالجامع.
وضابط الأول أنّه لا يُحتاج فيه إلى التعرض للعلة الجامعة، بل يُكتفى فيه بنفي الفارق المؤثر في الحكم».
ويعجبني -غايةً- في هذا الموضوع كلام ابن رشد في أوائل «بداية المجتهد»: «فمثال القياس: إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحدِّ، والصداق بالنّصاب في القطع.
وأمّا إلحاق الربويّات بالمقتات، أو المكيل، أو المطعوم؛ فمن باب الخاص أُريدَ به العام، والجنس الأول هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه، وأما الثاني؛ فليس ينبغي لها أن تنازع فيه؛ لأنه من باب السمع».
أقولُ: فإلحاق غير المنصوص بالمنصوص داخل في المفهوم، وهكذا ينبغي أن يجري الأمر في هذا الباب الدقيق.
وهذا -هكذا- يغلق الأبواب المُشْرَعة أمام المتحايلين وقليلي الفقه والدين، في المنازعة في إجراء الربا -اليوم- في النقود التي بأيدي الناس بزعم أنها عروض تجارة!
وفي كتاب «رفع الآصار» -ذاك!-إعراض عن هذا التقرير، وتغافل عنه؛ فجميع الأثمان من الفلوس والدنانير والدراهم تأخذ حكم الذهب والفضّة، من أي فئة كانت، سواء الدولار، أو الجنيه، أو الدينار، ورقاً كانت أو معدناً، لانتفاء الفارق بينهما وبين الذهب في عهد التشريع، وفي هذا ردٌّ على من جعلها سلعة، ويجري فيها الربا، وذلك مما يُفضي إلى تذبذبها، وعدم استقرارها، وتكدسها في أيد قليلة، فيلحق الضرر بالعامّة (17).
وقد أفصح ابن القيم في «الإعلام» (3/401 – بتحقيقي) عن هذا بقوله: «وسرّ المسألة أنّهم مُنعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأنّ ذلك يُفسد عليهم مقصود الأثمان، ومُنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأنّ ذلك يُفسد عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأنّ التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: «تِبْرُها، وعَينها سواء»(18)؛ فظهرت حكمة تحريم ربا النَّسَاء (19) في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وأنّ هذا هو تحريم المقاصد، وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع».
ولا بدَّ من التنبيه على أنّ هذا المسلك فيه (تحقيق المناط) في الربويات، على وجه لا يعارض المقرر عند الفقهاء الكبار الثقات، ومنه يظهر حرمة بيع الأوراق النقديّة نسيئة بزيادة، وأن الربا يلحقها ويجري فيها، كالذهب والفضة سواء بسواء.
رابعاً: فصّل بعضُ أهل العلم المتأخّرين (20) الحكمة من ذلك بكلام بديع غايةً؛ فقال: «الحكمة التي خلق الله الذهب والفضّة لأجلها هي: أنّ قِوام الدنيا بهما، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، إذ لا يَرُدَّان حَرّاً ولا برداً، ولا يُعذّبان جسماً، والخلق -كلّهم- محتاج إليهما، من حيث إنّ كلّ إنسان محتاج إلى أشياء كثيرة في مطعمه وملبسه، وقد لا يملك ما يحتاج إليه، ويملك ما يستغني عنه؛ كمن يملك القمح -مثلاً- وهو محتاج إلى فرس، والذي يملك الفرس قد يستغني عنه ويحتاج إلى البُرّ، فلا بدّ بينهما من معاوضة، ولا بدّ من تقدير العِوض؛ إذا لا يُعطي صاحب الفرس فرسه بكل مقدار البرّ، ولا مناسبة بين البُر والفرس حتى يقال: يُعطي منه مثله في الوزن! أو الصورة! فلا يدري: أنّ الفرس كم يساوي بالبُرّ.
فتتعذر المعاملات في هذا المثال -وأشباهه-؛ فاحتاج الناس إلى متوسط، يحكم بينهم بالعدل؛ فخلق الله الذهب والفضّة حاكمين بين الناس في جميع المعاملات؛ فيُقال: هذا الفرس يسوى مئة دينار، وهذا القدر من البُرّ يسوى مثله.
وإنّما كان التعديل بالذهب والفضّة؛ لأنه لا غرض في أعيانهما، وإنما خلقهما الله لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمَين بالعدل.
ونسبتهما إلى جميع الأموال نسبة واحدة؛ فمن ملكهما كأنه مَلَكَ كلّ شيء، ومن ملك فرساً –مثلاً-؛ فإنّه لم يملك إلا ذلك الفرس، فلو احتاج إلى طعام، ربما لم يرغب صاحب الطعام في الفرس؛ لأنّ غرضه في ثوب
–مثلاً-؛ فاحتيج إلى ما هو في صورته، كأنه ليس بشيء، وهو –في معناه- كأنه كل الأشياء، والشيءُ إنما يستوي نسبته إلى الأشياء المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصّة؛ كالمرآة: لا لون لها، وتحكي كلّ لون.
فكذلك الذهب والفضّة؛ لا غرض فيهما، وهمـا وسيلتان إلى كـلّ غرض؛ فكلّ مَن عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكمة الإلهيّة؛ فإنّه يعاقب بالنار –إن لم يقع السماح-؛ فمن كنزهما من غير أن يعطي منهما قدراً مخصوصاً للفقراء؛ فقد أبطل الحكمة فيهما، وكان كَمَن حَبَس الحاكمَ الذي بين الناس- ويقطع الخصومات- في سجنٍ يمتنع عليه الحكم بسببه؛ لأنّه إذا كنزهما فقد ضيّع الحكم، وما خلق اللهُ الذهب والفضّة لزيدٍ خاصّةً، ولا لعمرو خاصّةً، وإنّـما خلقهـما لتتداولهـما الأيدي ليكونا حاكمين بين الناس.
ولا شكّ أنّ العقل إذا عرف هذا الذي قلناه؛ حَكَمَ بأنّ ادّخار الذهب والفضّة عن الناس ظلمٌ، واستحسن العقوبة عليه؛ لأنّ الله –تعالى- لم يخلق أحداً للضياع، وإنّما جعل عيش الفقراء على الأغنياء، ولكنّ الأغنياء ظلموا الفقراء، ومنعوهم حقّهم الذي جعله الله لهم».
ثمّ قال: «وكذا نقول: مَن باع الذهب بالذهب، أو الفضّة بالفضّة بزيادة؛ فقد جعلهما مقصودين في ذاتهما للتجارة، وذلك خلاف الحكمة الإلهيّة؛ لأنّ من عنده ثوب –مثلاً- وليس عنده ذهبٌ ولا فضّةٌ، وهو محتاج إلى طعام؛ فقد لا يقدر أن يشتري الطعام بالثوب، فهو معذور في بيعه بالذهب أو الفضّة، فيتوصّل إلى مقصوده، فإنّهما وسيلتان إلى الغير، لا غرض في أعيانهما.
فأمّا من عنده ذهبٌ فأراد بيعه بذهبٍ –أو فضّة فأراد بيعها بفضّةٍ-، فإنّه يُمنع من ذلك؛ لأنّه يُبقي الذهب والفضّة متقيدين محبوسين عنده، ويكون بمنزلة الذي كنز، وتقييد الحاكم –أو الرسول- الموصل الحاجات إلى الغير ظلمٌ، فلا معنىً لبيع الذهب بالذهب، والفضّة بالفضّة إلا اتخاذهما مقصودين للادخار.
فإذا عرف العقل هذا حسّنه، وحسّن العقوبة عليه، وإنّما كان بيع الذهب بالفضّة –والعكس- لا عقوبة عليه؛ لأنّ أحدهما يُخالف الآخر في التوصل به إلى قضاء الحاجات، إذ يسهل التوصّل بالفضّة من جهة كثرتها؛ فتتفرق في الحاجات، والمنع تشويش للمقصود به، وهو تسهيل التوصل به إلى غيره.
وكذا نقول لِمَن يبيع الفضّة –أو الذهب- بزيادة إلى أجل، كمن يبيع عشرة بعشرين إلى سنة: إنّ مبنى الاجتماع، وأساس الأديان: هو استعمال ما يوجب المحبّة والأُلفة؛ فيحصل التناصر والتعاون، والإنسانُ إذا كان محتاجاً، ووجد من يُسلفه؛ فلا شكّ أنّه يتقلّد مِنَّةَ من أسلفه، ويعتقد محبته، ويرى أنّ نصرته وإعانته أمر لازم له؛ ففي منع بيع الذهب والفضّة بزيادةٍ إلى أجلٍ إبقاءٌ لمنفعة السلف، التي هي من أجلّ المقاصد» (21).
قلت: وهذا المعنى يؤكد ما قرّرناه، وفيه ردّ واضح على من جعل النقود والأوراق كسائر السلع، فأجرى فيها الدين مع الزيادة.
ولا بدّ –أخيراً- من التنبيه إلى أمور:
أولاً: لم نستقص فتاوى العلماء المعتبرين، والأئمة المرضيين، من السابقين واللاحقين ما يدفع هذا البلاء الذي جاء به هذا الباحث، فلو أنه أمسك عن التأليف فيه، أو حبسه في صدره، أو جعل أوراقه في أدراجه؛ لأراح واستراح! فما الذي جرَّأه على نشره، والأمّة –إلا من رحم الله- واقعة في هذا البلاء؟! فما مراده من هذا التأليف الذي لم يراجعه له عالم معتبر، ولا فقيه له نظر! وهذه المسائل ما ينبغي لفرد غُمر أن يفتي بها، ويقرّر خلاف ما عليه العلماء والباحثون والمطلعون –فضلاً- عن- الأئمة الأكابر على اختلاف أعصارهم وأمصارهم!
ثانياً: أخطأ الباحث في نقل اختيار بعض الأعلام، ونقل عنهم ما لم يرضوه، والذي وقع فيما نقله من كلامهم من باب الأقوال التي قيلت، وهذا منهج معلوم، وطريق مسلوك، فالجمع شيء، والاختيار والتخريج والترجيح والفتوى شيء آخر، فتعلّق –مثلاً- بكلام للعلامة السعدي، والشيخ -فيما هو معروف عنه ومسطور في فتاويه- يفتي بخلاف ما توصّل إليه الباحث فيما نقلناه عنه، فالعجب منه ينقل باجتزاء وَتَشَهٍّ، ويتقوّل عليه، ويفرّع على أصله بهوى، دون أن يشير إلى مسلكه في الفتوى.
ثالثاً: لم يقتصر التّعدي والتّجنّي على الشيخ السعدي، وإنّما تعدّاه إلى غيره، كعليش -مثلاً- من المالكيّة، فنقل عنه في موطنين (ص34، 43) ما يوهم أنّ اختياره أنّ النقود والأوراق الماليّة عروض تجارية، وبالتالي لا يجري فيها الربا! ورحم الله الثعالبي الحجوي؛ فإنه أورد كلام عليش بطوله، ومما قال في آخر رسالته «الأحكام الشرعيّة في الأوراق الماليّة»: «هذا وإنّ بعض أهل الفتوى ادّعى أنّ الأوراق عروض، وساق كلام عليش باللفظ السابق مستدلاً به، لكن نص عليش السابق مصرّحاً بنفي كونها عروضاً، لنفيه الزكاة عن عينها وقيمتها، وذلك كله غير صواب، كما سبق، والله تعالى أعلم».
وقال –أيضاً- في كتابه «مختصر العروة الوثقى» (ص66): «ومن أخطر الأسباب في أغلاط العلماء ثقتهم العمياء بحفظهم أو بفهمهم، وغلط الفهم أصعب علاجاً، وأمتن اعوجاجاً، وبسببه تشعّب الخلاف في الأمّة، وعزَّ حلّ مشكلاتها من لدن الصحابة إلى الآن، ولولا هذه الثقة لخفَّت أغلاط كثيرة».
رابعاً: اكتفيت في هذه (المقالة) بالرد على مأخذ المسألة، وأصل تكييفها، وتحقيق مناطها، أمّا النقولات التي أوردها مجتزأة؛ موظفاً إياها لنصرة اختياره، دون نظر إلى المعتمد المقرّر عند أصحابها، فهذا له شأن آخر، والمثال السابق عن الفقيه المالكي الشيخ عليش يدلُّك على ذلك.
وأُراني مضطراً إلى إلجام القلم، وعدم إرساله في التفصيل بعد ذلك التأصيل، وفيما ذكرناه كفاية لمن رام الحق، واتّبع السبيل، وأنصف ولم يعاند، ورحم الله ابن القيّم القائل في كتابه الماتع النافع «إعلام الموقعين» (5/387- 388 - بتحقيقي): «ولا يوحشنّك مَن قد أقرّ على نفسه هو وجميع أهل العلم أنه ليس من أولي العلم، فإذا ظفرت برجل واحد من أولي العلم طالب للدليل، مُحَكم له، متّبع للحق حيث كان، وأين كان، ومع من كان: زالت الوحشة، وحصلت الألفة، ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجّة، ويُكفّرك أو يبدّعك بلا حجّة، وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة، وسيرته الذميمة، فلا تغترّ بكثرة هذا الضرب، فإنّ الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد من أهل العلم يعدل بملء الأرض منهم».
ومما ينبغي التذكير به في الختام «أنّ الاختلاف في بعض القواعد الكليّة لا يقع في العادة الجارية بين المتبحّرين في علم الشريعة، الخائضين في لجّتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها» و «كلّ خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك، من أسبابه:
أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعْتَقَدَ فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين، ولم يبلغ تلك الدرجة، فيعمل على ذلك، ويعدّ رأيه رأياً، وخلافه خلافاً، فتراه آخذاً ببعض جزئيّات الشريعة في هدم كليّاتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له بادي رأيه، من غير إحاطة بمعانيها، ولا رسوخ في فهم مقاصدها، وهذا هو المبتدع، وعليه نبّه الحديث الصحيح: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبق عالم اتّخذ الناس رؤوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا».
قال الطرطوشي في «الحوادث والبدع» (ص70): «تدبّروا هذا الحديث، فإنّه يدلّ على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم، وإنّما يؤتون من قِبَلِ أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله، وقد صرّف هذا المعنى تصريفاً، فقيل: ما خان أمين قط، ولكن ائتُمن غير أمين، فخان، فقال: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكن استُفتي من ليس بعالم فضلّ وأضلّ»، قاله كلَّه الشاطبي في «الاعتصام» (3/128-129 – بتحقيقي) بنوع تصرّف واختصار.
ورحم اللهُ مَن قال:
وليس العلمُ في الدُّنيا بفخرٍ
إذا ما حلَّ في غير الثّقاتِ
ومن طلب العلوم لغير ربّي
بعيدٌ أن تراهُ من الهُداةِ
فاحذر –أخي القارئ- من هذا الكتاب، واتَّقِ الله أن يغررك التبهرج الذي فيه، واحرص من أن يجرِّئك على الولوغ والولوج في الكبائر ومقدماتها، وإيّاك أن تحوم حولها.
وعلى ناشره وبائعه أن يتّقوا الله في دينهم، وأن لا يعملوا على ترويج أسباب الكبائر، فإنّ الوسيلة للحرام حرام، وهم شركاء مؤلفه في وزر من ضلّ جراء الاغترار به، والله الهادي والواقي.