الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
إن كل متأمل لنصوص الوحيين يعلم علماً يقينياً ما للتوحيد من الأهمية العظيمة ، والمنزلة الرفيعة ، فهو الأساس الذي يقوم عليه بناء الإسلام ، والأصل العظيم الذي تدور عليه جميع الأحكام ، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وواجباته وجزائه ، وفي بيان شأن الشرك وأهله وجزائهم ، فكان لزاماً على كل مكلف أن يسعى سعياً حثيثاً في تعلم التوحيد وأنواعه وحقوقه ، وكذلك يتعلم ما يضاد التوحيد ويفسده من الشرك وأسبابه ووسائله ، أو ما ينقص من كماله ودرجته فيحذر كل الحذر من الوقوع في ذلك.
وقبل الشروع في توضيح هذه الأصول العظيمة ، والمقاصد الجليلة لابد من الوقوف على بعض من المقدمات المهمة في هذا الباب تكون - بإذن الله- عدة وزاداً لكل موحد .
تنبيه ( هذه المقدمات مأخوذة من كلام أهل العلم إما لفظاً أو معنى )
المقدمة الأولى:
أنه يجب في هذا الباب وغيره التسليم والانقياد لنصوص الكتاب والسنة ، وعدم معارضتها بالأهواء ، والمقاييس الفاسدة ، وآراء الرجال ، فما ضل من ضل إلا بسبب هذا وأمثاله ، وقـد قال ابن سيرين -رحمه الله-: (أول من قاس إبليس، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس) فالحذر كل الحذر من مسالك أهل الردى.
المقدمة الثانية :
من المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ، وأخبر سبحانه أنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره- أن يكون قد ترك باب التوحيد والعلم به ملتبساً مشتبهاً فلم يبين ما يجب فيه وما يمتنع ، كيف وهو القائل- عليه الصلاة والسلام -: ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مُسكة من إيمان وحكمة هذا التوهم الباطل .
المقدمة الثالثة :
إنَّ أولى الناس وأحراهم بفهم النصوص في هذا الباب وغيره هم سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واتبع سبيلهم ، فقد احكموا هذا الباب قولاً وعملاً ، فلا يخرج عن سبيلهم ، ولايحاد عن طريقهم ، فطريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم .
المقدمة الرابعة:
في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية (هو الذي أنزل عليكـ الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل مهن عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) قالت قال رسول الله- صلى الله عليه و سلم - : ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) فتتبع المتشابه ، وضرب النصوص بعضها ببعض هي من علامات أهل الزيغ والضلال .
المقدمة الخامسة:
العبرة بحقائق الأشياء ومعانيها دون ألفاظها وعباراتها ، فتسمية أهل الشرك شركهم بالوسيلة وبمحبة الصالحين لا يجدي عنهم شيئا ، وكذلك تسمية أهل التحريف والتأويل فعلهم هذا بالتنزيه والتوحيد لا يغير حقيقة الأمر ، فلا تغتر بزخرف والأقاويل وبهرج الباطل .
المقدمة السادسة :
إنَّ من أعظم المهمات في هذا الباب وغيره تمييز السنة من البدعة حيث أنَّ كل طائفة تزعم أنها على السنة وأنَّ المخالف لها على البدعة ، وهذا التمييز لا يكون إلا بتدبر الكتاب والسنة ، ومعرفة ما كان عليه سلف الأمة في هذا الباب ، وأخذ العلم عن أهله الراسخين ، فهذا الإمام ابن سيرين -رحمه الله- يقول: ( إنًّ هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم).
المقدمة السابعة :
للبدع في الدين آفآت ومفاسد تحيط بقلب صاحبها حتى تورده مواطن الهلاك ، وإليك بعضا من هذه المفاسد :
1- القلوب التي تبتلى بالبدع تستعذبها ، وتستغني بها عن كثير من السنن!!.
2- أنَّ في ذلك منازعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به وهذا يورث في القلب النفاق.
3- مصير المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً.
4- تجد الواحد منهم يجتهد فيها ما لا يفعله في الفرائض التي يفعلها على أنها وظيفة وعادة.
5- مسارقة الطبع إلى الانحلال من الإتباع ، فالنفس فيها نوع من الكبر ، فتحب أن تخرج من العبودية ، قال أبو عثمان النيسابوري: ( ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه).
المقدمة الثامنة :
قسم أهل العلم التوحيد إلى ثلاثة أقسام :
1- توحيد الربوبية
2- توحيد الألوهية
3- توحيد الأسماء والصفات.
وبعض أهل العلم يجعل القسمة ثنائية:
1- توحيد في المعرفة والإثبات ، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
2- وتوحيد في الطلب والقصد ، وهو توحيد الألوهية .
ولا منافاة بين الطريقتين ، وهذا التقسيم مبني على التتبع والاستقراء للنصوص من الكتاب والسنة.
المقدمة التاسعة :
ليعلم أن توحيد الإلوهية هو التوحيد الذي بعث الله الرسل وأنزل الكتب من أجله ، وهو الذي وقع النزاع فيه بين الرسل وأممهم قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ، وانقسمت الخليقة بسببه إلى سعداء وأشقياء ، فهو سر الخلق والأمر.
ومن أجل ذلك ستكون المقالات القادمة -بإذن الله- في بيان هذا الأصل العظيم .
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- (فأهل الإسلام في الناس غرباء ، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء ، وأهل العلم في المؤمنين غرباء ، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء ، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة ، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا فلا غربة عليهم).
اللهم اجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، اللهم رحمتك نرجو ومغفرتك نأمل ، فلا تخيب رجاءنا وحقق فيك آمالنا.
والحمد لله رب العالمين
منقول