فصل
ونؤمن بالقدر خيره وشره، وهو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته.
وللقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم، علم ما كان وما يكون وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يتجدد له علم بعد جهل، ولا يلحقه نسيان بعد علم.
المرتبة الثانية: الكتابة، فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموت والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [الحج:70].
المرتبة الثالثة: المشيئة، فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السموات والأرض، لا يكون شيء إلا بمشيئته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: الخلق، فنؤمن بأن الله تعالى: خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السموت والأرض [الزمر:62-63].
وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه ولما يكون من العباد، فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده، والله تعالى قد شاءها وخلقها لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين [التكوير:28-29]، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد [البقرة:253]، ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون [الأنعام:137]، والله خلقكم وما تعملون [الصافات:96].
ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختيارا وقدرة بهما يكون الفعل، والدليل على أن فعل العبد باختياره وقدرته أمور:
الأول: قوله تعالى: فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقر:223]، وقوله: وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً [التوبة:46]، فأثبت للعبد إتيانا بمشيئته وإعدادا بإرادته.
الثاني: توجيه الأمر والنهي إلى العبد، ولو لم يكن له اختيار وقدرة لكان توجيه ذلك إليه من التكليف بما لا يطاق، وهو أمر تأباه حكمة الله تعالى ورحمته وخبره الصادق في قوله: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقر:286].
الثالث: مدح المحسن على إحسانه وذم المسيء على إساءته، وإثابة كل منهما بما يستحق، ولولا أن الفعل يقع بإرادة العبد واختياره لكان مدح المحسن عبثاً وعقوبة المسيء ظلماً، والله تعالى منزه عن العبث والظلم.
الرابع: أن الله تعالى أرسل الرسل مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره ما بطلت حجته بإرسال الرسل.
الخامس: أن كل فاعل يحس أنه يفعل الشيء أو يتركه بدون أي شعور بإكراه، فهو يقوم ويقعد، ويدخل ويخرج ويسافر ويقيم بمحض إرادة، ولا يشعر بأم أحدا يكرهه على ذلك، بل يفرق تفريقا واقعيا بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكرهه عليه مكره. وكذلك فرق الشرع بينهما تفريقا حكيما، فلم يؤآخذ الفاعل بما فعله مكرها عليه فيما يتعلق بحق الله تعالى.
ونرى أنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى؛ لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله تعالى قدرها عليه، إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [لقمان:34]، فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتج بها حين إقدامه على ما اعتذر بها عنه، وقد ابطل الله تعالى هذه الحجة بقوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148].
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لماذا لا تقدم على الطاعة مقدرا أن الله تعالى قد كتبها لك، فإنه لا فرق بينها وبين المعصية في الجهل بالمقدور قبل صدور الفعل منك؟ ولهذا لما أخبر النبي الصحابة بأن كل واحد قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا: أفلا نتكل وندع العمل؟ قال: { لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له }.
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لو كنت تريد السفر لمكة وكان لها طريقان، أخبرك الصادق أن أحدهما مخوف صعب والثاني آمن سهل، فإنك ستسلك الثاني ولا يمكن أن تسلك الأول وتقول: إنه مقدر علي؛ ولو فعلت ذلك لعدك الناس في قسم المجانين.
ونقول أيضا: لو عرض عليك وظيفتان، إحداهما ذات مرتب أكثر، فإنك سوف تعمل فيها دون الناقصة، فكيف تختار لنفسك في عمل الآخرة ما هو الأدنى ثم تحتج بالقدر؟
ونقول له أيضا: نراك إذا أصبت بمرض جسمي طرقت باب كل طبيب لعلاجك، وصبرت على ما ينالك من ألم عملية الجراحة وعلى مرارة الدواء، فلماذا لا تفعل مثل ذلك في مرض قلبك بالمعاصي؟
ونؤمن بأن الشر لا ينسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته، قال النبي : { والشر ليس إليك } [رواه مسلم]، فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شر أبداً، لأنه صادر عن رحمة وحكمة، وإنما يكون الشر في مقضياته؛ لقول النبي صلى اله عليه وسلم في دعاء القنوت الذي علمه الحسن: { وقني شر ما قضيت } فأضاف الشر إلى ما قضاه، ومع هذا فإن الشر بالمقضيات ليس شراً خالصاً محضاً، بل هو شر في محله من وجه، وخير من وجه، أو شر في محله، خير في محل آخر؛ فالفساد في الأرض من الجدب والمرض والفقر والخوف شر، لكنه خير في محل آخر، قال الله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وقطع يد السارق ورجم الزاني شر بالنسبة للسارق والزاني في قطع اليد وإزهاق النفس، لكنه خير لهما من وجه آخر، حيث يكون كفارة لهما فلا يجمع لهما بين عقوبتي الدنيا والآخرة، وهو أيضا خير في محل آخر، حيث إن فيه حماية الأموال والأعراض والأنساب.
فصل
هذه العقيدة السامية المتضمنة لهذه الأصول العظيمة تثمر لمعتقدها ثمرات جليلة كثيرة؛ فالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته يثمر للعبد محبة لله وتعظيمه الموجبين للقيام بأمره واجتناب نهيه، والقيام بأمر الله تعالى واجتناب نهيه يحصل بها كمال السعادة في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
ومن ثمرات الإيمان بالملائكة:
أولا: العلم بعظمة خالقهم تبارك وتعالى وقوته وسلطانه.
ثانيا: شكره تعالى على عنايته بعباده، حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم غير ذلك من مصالحهم.
ثالثا: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى على الوجه الأكمل ولاستغفارهم للمؤمنين.
ومن ثمرات الإيمان بالكتب:
أولا: العلم برحمة الله تعالى ورحمة بخلقه، حيث أنزل لكل قوم كتابا يهديهم به.
ثانيا: ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها، وكان خاتم هذه الكتب القران العظيم مناسبا لجميع الخلق في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة.
ثالثا: شكر نعمة الله تعالى على ذلك.
ومن ثمرات الإيمان بالرسل:
أولا: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم أولئك الرسل الكرام للهداية والإرشاد.
ثانيا: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
ثالثا: محبة الرسل وتوقيرهم والثناء عليهم بما يليق بهم؛ لأنهم رسل الله تعالى وخلاصة عبيده، قاموا لله بعبادته وتبليغ رسالته والنصح لعباده والصبر على أذاهم.
ومن ثمرات الإيمان باليوم الآخر:
أولا: الحرص على طاعة الله تعالى رغبة في ثواب ذلك اليوم، والبعد عن معصيته خوفا من عقاب ذلك اليوم.
ثانيا: تسلية المؤمن عما يفوته من نعيم الدنيا ومتاعها، بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
ومن ثمرات الإيمان بالقدر:
أولا الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب؛ لأن السبب والمسبَب كلاهما بقضاء الله وقدره.
ثانيا: راحة النفس وطمأنينة القلب؛ أنه متى علم أن ذلك بقضاء الله تعالى، وأن المكروه كائن لا محالة، ارتاحت النفس واطمأن القلب ورضي بقضاء الرب، فلا أحد أطيب عيشا وأريح نفسا وأقوى طمأنينة ممن آمن بالقدر.
ثالثا: طرد الإعجاب بالنفس عند حصول المراد؛ لأن حصول ذلك نعمة من الله بما قدره من أسباب الخير والنجاح، فيشكر الله تعالى على ذلك ويدع الإعجاب.
رابعا: طرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه؛ لأن ذلك عدم رضى بقضاء الله تعالى الذي له ملك السموات والأرض وهو كائن لا محالة، فيصبر على لك ويحتسب الأجر، وإلى هذا يشير الله تعالى بقوله: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23،22].
فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على هذه العقيدة، وأن يحقق لنا ثمراتها ويزيدنا من فضله، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
تمت بقلم مؤلفها محمد الصالح العثيمين في 30 شوال 1404هـ