الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد!
فمما جر على الأمة الويلات في غابر عهدها وحاضره مسألة الغلو في التكفير عند بعض أبنائها ، وقد ذاقت الأمة- ولا تزال- بسبب ذلك الكثير من المحن والفتن.
وباب التكفير باب خطير وراءه تبعات عظام وأمور جسام ، فمن ولجه على غير بينة من ربه فقد هلك وأهلك. والأمثلة على ذلك كثيرة لا تزال شاهدة على العواقب الوخيمة التي ترتبت على جرأة بعض الناس ممن ينتسب إلى العلم على التكفير والتفسيق والتبديع بغير برهان صحيح ولا دليل صريح .
ومما يؤسف له أن كثيرا ممن ركب هذا المركب وأخذ ذلك المسلك قد احتج على باطله الذي نهج وزيفه الذي أخذ بكلام شيخ الإسلام المحقق البارع العبقري الجهبذ أبي العباس بن تيمية رحمه اله تعالى ، حتى انقدح في أذهان كثيرين أن الرجل مفرط في التكفير متساهل في إطلاق هذه الأحكام ، مع أن شيخ الإسلام كان بخلاف ذلك تماما وعلى العكس منه جملة وتفصيلا.
قال رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (3 / 229)
" ...هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني : أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها : وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية . وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية".
وقال ابن رجب عند ترجمته لشيخ الإسلام في ذيل طبقات الحنابلة" (1 / 341):" قال الذهبي: وغالب حطه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفر أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه".
ولكن أهل الأهواء من المغالين في التكفير والتبديع والتفسيق لا يفهمون كلام شيخ الإسلام على وجهه ولا يضمون بعضه إلى بعض بل يأخذون منه ما يوافق مآرابهم ويحقق مطامعهم ، ومَن جمع ضحالة العلم واتباع الهوى فمثل هذه الفعال هي أقل ما يُنتظر منه.
وأصل هذه القضية أن بعض الناس لا يفهم الفرق بين إطلاق الحكم بالكفر والبدعة والفسق وبين تكفير الشخص المعين وتبديعه وتفسيقه ، مع أن شيخ الإسلام كثيرا ما دندن حول ذلك وبينه في مواضع من كتبه رحمه الله ورضي عنه.
قال رحمه الله تعالى:
" ...وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها ، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم
وقد يسلكون في التكفير ذلك فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقا ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية وهذا القول أيضا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم وليس فيهم من كفر كل مبتدع بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه "
منهاج السنة النبوية - (5 / 239)
لذا كان من المناسب إلقاء الضوء على هذه الموانع التي تحول دون تنزيل الحكم المطلق على الشخص المعين من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه، لئلا يتعلق كل غال في تكفيره للناس أو تفسيقهم بكلام شيخ الإسلام فهو برئ من أمثال هؤلاء الجهلة.
وقد كنت أنتوي جمع بحث في هذا الموضوع مدعما أقوال شيخ الإسلام عن هذه الموانع بأقوال غيره من أهل العلم ، ثم صرفت النظر عن ذلك ، فأحببت الآن أن أنقل لإخواني في الملتقى – للفائدة- ما كان قد تجمع عندي من كلام شيخ الإسلام في هذا الموضوع مما وقفت عليه بنفسي أو أشار إلى موضعه مَن جمع في قضايا لها تعلق بأمور التكفير والتبديع مثل صاحب منهج الموازنة في الحكم على الأعيان عند شيخ الإسلام ، وصاحب قواعد فقه التعامل مع المخالفين، وغيرهما.
ولعل شيخنا أبا محمد المحراب يتحفنا بما عنده من تحريرات في هذا الشأن.
المانع الأول:
1- العذر بالجهل:
قال رحمه الله :
"الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرًا إذا كان مقرًا بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه"
المجموع (7/ 538)
2- ( وقل طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامها نوع غلط لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع ، ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه وأصول الدين والفقه والزهد والتفسير والحديث من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال ويحكي من مقالات الناس ألوانا ، والقول الذي بعث الله به رسوله لا يذكره لعدم علمه به لا لكراهته لما عليه الرسول) "مجموع الفتاوى" (5/484)
3- وقال رحمه الله بعد ذكره وجهين لتغليط مقالات أهل البدع :
( الثالث : أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها ؛ لكن مع هذا قد يخفي كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم ؛ لما يوردونه من الشبهات ، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنا وظاهرا ؛ وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة .. ) مجموع الفتاوى(3/355)
4- وقال: ( .. فإن مخالفة المسلم الصحيح الإيمان النصَ إنما يكون لعدم علمه به ، أو لاعتقاده صحة ما عارضه .. ) مجموع الفتاوى (4/15)
5- وقال :
"... وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة ، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة ، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها ، وإما لرأي رأوه ، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم ، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى : "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" ، وفي الصحيح أن الله قال : "قد فعلت" )(19/191)
6- وقال:
" فعلى كل مكلف أن يقر بما ثبت عنده من أن الرسول أخبر به وأمر به ، وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به ولم يمكنه العلم بذلك فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصلا ، وهو داخل في إقراره بالمجمل العام ، ثم إن قال خلاف ذلك متأولا كان مخطئا يغفر له خطأه ؛ إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان ، ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة ، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل . وأما ما علم ثبوته بمجرد القياس العقلي دون الرسالة ؛ فهذا لا يعاقب إن لم يعتقده )(3/327)
6- وقال في الرد على البكري (ص 259):
"كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال. وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم"
7- وقال في كلامه على مذهب وحدة الوجود (2/367):
"وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين، الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلامًا وإيمانًا ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقرارًا لهؤلاء وإحسانًا للظن بهم وتسليمًا لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد أو جاهل ضال" أ.هـ.
ثم قال (2/379): "ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق، وهذا السر أشد كفرًا وإلحاحًا من ظاهره، فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس. ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض ويتواجد عليها ويعظمها، ظانًا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة وهو لا يعلم مراد قائلها، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين، فلا يفهمون حقيقته"
8- وقال في كلامه على مباينة الله تعالى للعالم:
"ويقول المثبت نفي مباينته للعالم وعلوه على خلقه باطل، بل هذه الأمور مستلزمة لتكذيب الرسول فيما أثبته لربه وأخبر عنه، وهو كفر أيضًا، لكن ليس كل من تكلّم بالكفر يكفر، حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره؛ فإذا قامت عليه الحجة كفر حينئذ؛ بل نفي هذه الأمور مستلزم للتكفير للرسول فيما أثبته لربه وأخبر به عنه؛ بل نفي للصانع وتعطيل له في الحقيقة.
وإذا كان نفي هذه الأشياء مستلزمًا للكفر بهذا الاعتبار وقد نفاها طوائف كثيرة من أهل الإيمان، فلازم المذهب ليس بمذهب، إلا أن يستلزمه صاحب المذهب، فخلق كثير من الناس ينفون ألفاظًا أو يثبتونها بل ينفون معاني أو يثبتونها ويكون ذلك مستلزمًا لأمور هي كفر، وهم لا يعلمون بالملازمة بل يتناقضون، وما أكثر تناقض الناس لا سيما في هذا الباب، وليس التناقض كفرًا"
مجموع الفتاوى(5/306)
يتبع بإذن الله تعالى