قال الشيخ الألباني رحمه الله في مقدمة تمام المنة
القاعدة الخامسةعدم الاعتماد على توثيق ابن حبان
قد علمت مما سبق آنفا أن المجهول بقسميه لا يقبل حديثه عند جمهور العلماء , وقد شذ عنهم ابن حبان فقبل حديثه , واحتج به وأورده في " صحيحه " ,
قال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " : " قال ابن حبان : من كان منكر الحديث على قِلَّته لا يجوز تعديله إلا بعد السبر , ولو كان ممن يروي المناكير , ووافق الثقات في الأخبار , لكان عدلا مقبول الرواية , إذ الناس أقوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح [ فيجرح بما ظهر منه من الجرح ] , هذا حكم المشاهير من الرواة , فأما المجاهيل
الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء فهم متروكون على الأحوال كلها " " الضعفاء " ( 2 / 192 - 193 ) والزيادة من ترجمة عائذ الله المجاشعي . ثم قال الحافظ : "
قلت : وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة حتى يتبين جرحه مذهب عجيب , والجمهور على خلافه , وهذا مسلك ابن حبان في " كتاب الثقات " الذي ألفه , فإنه يذكر خلقا نص عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون , وكأن عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور , وهو مذهب شيخه ابن خزيمة , ولكن جهالة حاله باقية عند غيره " هذا كله كلام الحافظ .
ومن عجيب أمر ابن حبان أنه يورد في الكتاب المذكور بناء على هذه القاعدة المرجوحة جماعة يصرح في ترجمتهم بأنه " لا يعرفهم ولا آباءهم " ! فقال في الطبقة الثالثة : " سهل يروي عن شداد بن الهاد روى عنه أبو يعفور , ولست أعرفه , ولا أدري من أبوه " ومن شاء الزيادة في الأمثلة فليراجع " الصارم المنكي " ( ص 92 - 93 ) وقد قال بعد أن ساقها : " وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلقا كثيرا من هذا النمط , وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولا لم يعرف حاله , وينبغي أن ينتبه لهذا ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق "
ولهذا نجد المحققين من المحدثين كالذهبي والعسقلاني وغيرهما لا يوثقون من تفرد بتوثيقه ابن حبان , وستأتي أمثلة كثيرة على ذلك عند الكلام على الأحاديث الضعيفة التي وثق المؤلف - أو من نقل عنه - رجالها مع أن فيها من تفرد ابن حبان بتوثيقهم من المجهولين
ومما ينبغي التنبه له أن قول ابن عبد الهادي : " وإن كان مجهولا لم يعرف حاله " ليس دقيقا: لأنه يعطي بمفهوم المخالفة أن طريقة ابن حبان في " ثقاته " أن لا يذكر فيه من كان مجهول العين ! وليس كذلك , بدليل قوله المتقدم في " سهل " : " لست أعرفه ولا أدري من أبوه " ومثله ما يأتي قريبا .
وكذلك قول الحافظ :" برواية واحد مشهور " يوهم أن ابن حبان لا يوثق إلا من روى عنه واحد مشهور , لأنه إن كان يعني مشهورا بالثقة كما هو الظاهر , فهو مخالف للواقع في كثير من ثقاته , وإن كان يعني غير ذلك فهو مما لا قيمة له , لأنه إما ضعيف أو مجهول , ولكل منهما رواة في " كتاب الثقات " وإليك بعض الأمثلة من طبقة التابعين عنده :
1- إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال ( 4 / 10 ) :
" يروي المراسيل , روى عنه معان بن رفاعة " ثم ذكر له بإسناده عنه مرسلا : " يرث هذا العلم من كل خلف عدوله . . " الحديث .
قلت : ومعان هذا قال الحافظ نفسه فيه : " لين الحديث "
وقال الذهبي : " ليس بعمدة , ولا سيما أتى بواحد لا يدرى من هو ! "
يعني إبراهيم هذا , فهو مجهول العين , وأشار ابن حبان إلى هذا فقال في ترجمة معان من " الضعفاء " ( 3 / 36 ) : " منكر الحديث , يروي مراسيل كثيرة , ويحدث عن أقوام مجاهيل , لا يشبه حديثه حديث الأثبات "
2 - إبراهيم بن إسماعيل قال ( 4 / 14 - 15 ) :
" يروي عن أبي هريرة روى عنه الحجاج بن يسار "
قلت :الحجاج هذا - ويقال فيه : ابن عبيد - قال الحافظ فيه : فقال : " مجهول
وكذا قال قبله أبو حاتم وغيره كما في " ميزان " الذهبي , وبين وجه ذلك فقال : " روى عنه ليث بن أبي سُليم وحده " وليث هذا ضعيف مختلط كما هو معروف حتى عند ابن حبان ( 2 / 231 ) .
3 -إبراهيم الأنصاري قال ابن حبان ( 4 / 15 ) :
" يروي عن مسلمة بن مخلد . . روى عنه ابنه إسماعيل بن إبراهيم " .
قلت : وإسماعيل هذا مجهول كما قال الحافظ ومن قبله أبو حاتم .
فتبين من هذا التحقيق أن ابن حبان ترتفع جهالة العين عنده برواية واحد ولو كان ضعيفا أو مجهولا , خلافا لظاهر كلام الحافظ المتقدم , وإن كان لم يجزم به , فإنه قال : " وكأن ابن حبان . . " وهو أخذه من قول ابن حبان الذي نقله عنه آنفا : " هذا حكم المشاهير من الرواة , فأما المجاهيل . . " الخ , فهو منقوض بالمثال الثاني كما هو ظاهر . وبالجملة , فالجهالة العينية وحدها ليست جرحا عند ابن حبان , وقد ازددت يقينا بذلك بعد أن درست تراجم كتابه " الضعفاء " وقد بلغ عددهم قرابة ألف وأربعمائة راوٍ , فلم أر فيهم من طعن فيه بالجهالة , اللهم إلا أربعة منهم , لكنه طعن فيهم بروايتهم المناكير وليس بالجهالة , وهاك أسماءهم وكلامه فيهم :
1 - حميد بن علي بن هارون القيسي
ذكر له ( 1 / 263 - 264 ) بعض المناكير ثم قال :
" فلا يجوز الاحتجاج به بعد روايته مثل هذه الأشياء عن هؤلاء الثقات . . وهذا شيخ ليس يعرفه كثير أحد " .
2 -عبد الله بن أبي ليلى الأنصاري قال ( 2 / 5 ) :
" هذا رجل مجهول , ما أعلم له شيئا يرويه غير هذا الحرف المنكر الذي يشهد إجماع المسلمين قاطبة ببطلانه " .
3 -عبد الله بن زياد بن سُليم قال ( 2 / 7 ) : " شيخ مجهول , روى عنه بقية بن الوليد , لست أحفظ له راويا غير بقية , وبقية قد ذكرنا ضعفه في أول الكتاب فلا يتهيأ لي القدح فيه , على أن ما رواه يجب تركه على الأحوال " .
4 -أبو زيد : قال ( 3 / 158 ) :
" أبو زيد يروي عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه , ليس يدرى من هو ؟ لا يعرف أبوه ولا بلده , والإنسان إذا كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس والنظر والرأي يستحق مجانبته فيه ولا يحتج به " . ومن هنا قال ابن عبد الهادي فيما تقدم : " وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح , وإن كان مجهولا لم يعرف حاله " .
لكن الصواب أن يقال عنه : " لم يعرف عينه " للأمثلة المتقدمة والله أعلم .
والخلاصة أن توثيق ابن حبان يجب أن يتلقى بكثير من التحفظ والحذر لمخالفته العلماء في توثيقه للمجهولين . لكن ليس ذلك على إطلاقه كما بينه العلامة المُعَلِّمي في " التنكيل " ( 1 / 437 - 438 ) مع تعليقي عليه . وراجع لهذا البحث ردي على الشيخ الحبشي فإنه كثير الاعتماد على من وثقه ابن حبان من المجهولين ( ص 18 - 21 ) . وإن مما يجب التنبيه عليه أيضا , أنه ينبغي أن يضم إلى ما ذكره المعلمي أمر آخر هام , عرفته بالممارسة لهذا العلم , قلَّ من نبه عليه , وغفل عنه جماهير الطلاب , وهو أن من وثقه ابن حبان , وقد روى عنه جمع من الثقات , ولم يأت بما ينكر عليه , فهو صدوق يحتج به . وبناء على ذلك قويت بعض الأحاديث التي هي من هذا القبيل , كحديث العجن في الصلاة , فتوهم بعض الناشئين في هذا العلم أننى ناقضت نفسي , وجاريت ابن حبان في شذوذه , وضعَّف هو حديث العجن , وسيأتي الرد عليه مفصلا إن شاء الله , مع ذكر عشرة أمثلة من الرواة الذين وثقهم ابن حبان فقط , وتبعه الحافظان الذهبي والعسقلاني , فاطلب ذلك في بحث " كيفية الرفع من السجود " ( ص 197 - 207 ) .