هَذِهِ الوَصِيَّةُ مِن أَحْسَنِ الوَصَايَا في الحَثِّ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ وَبَيَانِ شَرَفِ حَامِلِيهِ قَالَ عَنهَا الخَطِيْبُ البَغْدَادِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : (( هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحَادِيثِ مَعْنًى , وَأَشْرَفِهَا لَفْظًا , وَتَقْسِيمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ , عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ النَّاسَ فِي أَوَّلِهِ تَقْسِيمٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ , وَنِهَايَةِ السَّدَادِ , لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ , إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُغْفِلًا لِلْعِلْمِ وَطَلَبِهِ , لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا طَالِبٍ لَهُ فَالْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ : هُوَ الَّذِي لَا زِيَادَةَ عَلَى فَضْلِهِ لِفَاضِلٍ , وَلَا مَنْزِلَةَ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ لِمُجْتَهِدٍ , وَقَدْ دَخَلَ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِأَنَّهُ رَبَّانِيٌّ وَصْفُهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعِلْمُ لِأَهْلِهِ , وَيَمْنَعُ وَصْفَهُ بِمَا خَالَفَهَا , وَمَعْنَى الرَّبَّانِيِّ فِي اللُّغَةِ : الرَّفِيعُ الدَّرَجَةِ فِي الْعِلْمِ , الْعَالِي الْمَنْزِلَةِ فِيهِ , وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : ( لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ) ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى : ( وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) )).
فِإلَى الوَصِيَّةِ :
(( عن كُمَيل بن زياد النَّخَعِي قال : أخذ عليٌّ بيدي ، فأخرجني إلى ناحية الجبَّان ، فلما أَصْحَرنا ، جَلَسَ ، ثم تَنَفَّسَ ، ثم قال : يا كُمَيلَ بنَ زيادٍ القُلُوبُ أوعيةٌ ؛ فخيرُها أوعاها ، احفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة : فعالم رَبَّانِيٌّ ، ومتعلم على سبيل نجاة , وهمج رعاع , أتباع كل ناعق يميلون مع كُلِّ رِيحٍ ، لم يَسْتَضِيئوا بِنُور العَلمِ ولم يَلجئوا إلى رُكنٍ وَثِـيقٍ.
العِلمُ خَيرٌ من المالِ ، العِلْمُ يَحْرُسُكَ وأنت تحرُسُ المالَ ، العلمُ يَزُكو على العَمَلِ ، والمال تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، العلمُ حَاكِمٌ , والمال محكُومُ عليه , وصَنيعَةُ المالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ , ومحَبَّةُ العالم دِيْنٌ يُدانُ بها ، العلمُ يُكْسِبُ العالم الطَّاعةَ في حياته ، وجميلَ الأُحْدُوثَةِ بَعدَ مَوتِهِ ، وصَنيعةُ المال تَزولُ بِزَوَالِهِ ، مَاتَ خُزَّانُ الأَموالِ وَهمُ أَحْيَاءٌ ، والعلماءُ بَاقُونَ مَا بَقِي الدَّهْرُ ، أَعْيَانهم مَفْقُودَةٌ ، وَأَمْثَالُهُم في القُلُوبِ مَوجُودَةٌ ، هَا إنَّ هَهُنا ـ وأشار بيده إلى صدره ـ عِلْماً لو أصبتُ له حَمَلةً ، بلى أصَبْتُهُ لَقِناً غَيرَ مَأمُونٍ عليه ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّين للدُّنيا ، يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللهِ عَلَى كِتَابِهِ ، وبِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، أَو مُنقَاداً لأَهْلِ الحَقِّ , لا بَصِيرَةَ لَهُ في إِحْيَائِهِ , يَقْتَدِحُ الشَّكُّ في قَلبِهِ , بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ , لا ذَا , ولا ذَاك , أَو مَنهُومٌ باللَّذَّةِ ، سَلِسُ القِيادِ للشَّهَواتِ , أو فمغرىً بجمع الأموال , والادِّخَارِ , ليسا مِن دُعَاةِ الدِّينِ , أَقْرَبُ شَبَهاً بهما الأَنعَامُ السَّائِمةُ , كَذلكِ يموتُ العلمِ بموتِ حَامِلِيهِ , اللَّهُمَّ بَلَى , لَن تخْلُوَ الأَرضُ مِن قَائِمٍ للهِ بحُجَّةٍ , لِكَي لا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ , أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا , بِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ حُجَجِهِ , حَتَّى يُؤَدُّوهَا إِلَى نُظَرَائِهِمْ , وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ ,هَجَمَ بهم العلمُ عَلَى حَقِيْقَةِ الأَمْرِ , فَاسْتَلانُوا مَا اسْتَوعَرَ مِنه المُتْرَفُونَ , وَأَنِسُوا بما اسْتَوحَشَ منه الجَاهِلُونَ , وَصَاحَبُوا الدنيا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بالمحلِّ الأَعْلَى ,أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي بِلَادِهِ ، وَدُعَاتُهُ إِلَى دِينِهِ ، هَاهْ هَاهْ شَوقاً إلى رُؤيَتِهِم , وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكَ , إِذَا شِئتَ فَقُمْ )) (1). اهـ
قال أبو عبيد العمروني : إسناده ضعيف جداً لجهالة عبد الرحمن بن جندب الراوي عن كميل ، فقد قال عنه الحافظ في : (( لسان الميزان )) : (( مجهول )).اهـ
وأبو حمزة الثُّـمالي ضعيف ليس بشيء ، ضعفه أحمد وابن معين ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة ، بل وقال : النسائي : ليس بثقة.
وقال إسماعيل بن عبد الله سمّويه ، عن عمر بن حفص بن غِيَاث : ترك أبي ( حديث ) الثُّماليَّ.
وقال أبو أحمد بن عَدِي : (( وضَعْفُه بيّنٌ على رواياته ، وهو إلى الضَّعف أقرب )).اهـ
قلت : ومع ضعفه سنداً إلا أن شهرته أغنت عن الإسناد فيه كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله : (( وهو حديث مشهور عند أهل العلم ، يستغنى عن الإسناد لشهرته عندهم )).اهـ
فالحديث ضعيف سنداً ، صحيح شهرةً فقد تلقاه العلماء بالقبول ، يستغنى بشهرته عن إسناده.
ـــــــــــــ
(1) أبو نعيم ( حلية الأولياء ج 1 ص 40 ـ 41 ) ، والخطيب ( الفقيه والمتفقه / 1 / ص 182 ، ذكر تقسيم أمير المؤمنين على بن أبي طالب أحوال الناس في طلب العلم وتركه ) تحقيق عادل العزازي ، والمزي ( تهذيب الكمال ) ، وأورده الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم مختصراً ، وعلق عليه قائلاً : (( وهو حديث مشهور عند أهل العلم ، يستغنى عن الإسناد لشهرته عندهم )) ، ( ج 2 / ص 984 ).اهـ