الحمد لله القائل في كتابه { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } والصلاة والسلام على رسول الله القائل في سنته (إن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يكره أن تُؤتى معصيته) ومن هذه الرخص التي منَّ الله عز وجل بها على هذه الأمة رخصة المسح على الجوربين والنعلين وفيما يلي رسالة موجزة تشتمل على الأدلة الصحيحة من السنة النبوية وآثار الصحابة رضي الله عنهم .
مشروعية المسح على الجوربين والنعلين :
عن المغيرة بن شعبةt: (أن رسول الله r توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) رواه أحمد والترمذي وقال : حسن صحيح . ورواه ابن ماجه وابن حبان والبيهقي وابن خزيمة وابن أبي شيبة وغيرهم وصححه ابن حبان . قال العلامة أحمد محمد شاكر :
{ والحديث صحيح واسناده كلهم ثقات } مقدمة رسالة المسح على الجوربين للقاسمي ص7 , وصححه الشيخ العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود( 1/33 ) . وعن أبي موسى الأشعريt أن رسول الله r ( توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ) رواه ابن ماجه و الطحاوي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه ( 1/91 ) . عن الأزرق بن قيس قال : { رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف , فقلت : أتمسح عليهما فقال (إنهما خفان ولكن من صوف}. قال العلامة أحمد شاكر : { وهذا إسناد صحيح .... وهذا الحديث موقوف على أنس من فعله وقوله ولكن وجه الحجة فيه أنه لم يكتف بالفعل بل صرح بأن الجوربين خفان ولكنهما من صوف ) مقدمة من رسالة المسح على الجوربين صفحة13 . قال الإمام بن دقيق العيد في ( الإحكام ) (1/113) : ( وقد اشتهر جواز المسح على الخفين عند علماء الشريعة , حتى عُدَّ شعاراً لأهل السنة , وعُدَّ إنكاره شعاراً لأهل البدع ) ولا فرق من حيث الحُكم بين الجوربين وبين الخفين. عن يحيى البكَّاء قال : ( سمعتُ ابن عمر يقول : المسح على الجوربين كالمسح على الخفَّين , وتلقَّى نافع ذلك عنه , فقال : هما بمنزلة الخفَّين) أخرجه ابن أبي شيبة بسند حسن عنه , و كذلك قال إبراهيم النَّخعي, أخرجه بسندٍ صحيح عنه كذلك في تحقيق (المسح على الجوربين ) للشيخ الألباني , وقال ابن المنذر في الأوسط (1/462) : ( روي إباحة المسح عن تسعة من أصحاب رسول الله r علي بن أبي طالب , وعمار بن ياسر , و أبي مسعود , وأنس بن مالك , وابن عمر , والبراء بن عازب , وبلال , وأبي أُمامة , وسهل بن سعد) ونقله ابن القيم في (تهذيب السنن (1/122) وزاد عليه أربعةً ثم قال : ( فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً , والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم ) .
يُشترط لجواز المسح أن يلبس الخُفين على وضوء :
لحديث المغيرة بن شعبة t قال : ( كنت مع النبي r ذات ليلة في مسير , فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه , ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ) فمسح عليهما _ رواه البخاري ومسلم
المسح على الخُف أو الجَورب المخرَّق :
فقد صحَّ عن الثوري : أنه قال : امسح عليها ما تعلقت به رجلك , وهل كانت خفاف المهاجرين و الأنصار إلا مُخَرَّقة , مشققة مرقَّعة ؟! أخرجه عبد الرزاق في ( المصنف 753 ) , ومن طريقه البيهقي ( 1/283 ) . قال ابن حزم في المحلى (2/100 ) ( فإن كان في الخفين أو فيما لبس على الرجلين خرقٌ صغير أو كبير طولاً أو عرضاً , فظهر منه شيء من القدم _ أقل القدم أو أكثرها أو كلاهما _ فكل ذلك سواء , والمسح على كل ذلك جائز , ما دام يتعلق بالرجلين منهما شيء , وهو قول سفيان الثوري وداود وأبي ثور وإسحاق ابن راهويه ويزيد ابن هارون ) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( المسائل الماردينيّة ) (ص78) ( فأكثر الفقهاء على أنه يجوز المسح عليه )) وقال أيضا في ( اختياراته ص13 ) , ( ويجوز المسح على اللفائف في أحد الوجهين , حكاه ابن تميم وغيره , وعلى الخف الخرق ما دام اسمه باقيا والمشي فيه ممكنا , وهو قديم قولي الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء ). وأما ما ذكره بعض الفقهاء من شروطٍ للجوربين اللَّذيْنِ يُمسَح عليهما بأن يكونا مُنَعَّلين أو مُجلدين أو ثخينين وغير ذلك من الشروط فلم يقم دليل صحيح على اعتبار هذه الشروط ولم يرد دليل على تقييد الجوربين بهذه الشروط , قال ابن حزم ( اشتراط التجليد خطأ لا معنى له لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس صاحب , والمنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول r وخلاف الآثار ولم يخص عليه الصلاة والسلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما ) (المحلى 1/324) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (نعم يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء أكانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء ففي السنن : أن النبي r مسح على جوربيه ونعليه ) مجموع الفتاوى ( 21 /214 ) .
مدة المسح ومتى تبدأ :
عن علي بن أبي طالب t قال : جعل رسول الله r ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر , ويوما وليلة للمقيم ) رواه مسلم _ قال الإمام النووي : ( قال الأوزاعي وأبو ثور ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث . وهو رواية عن أحمد وداود وهو المختار الراجح دليلا واختاره ابن المنذر وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب t ) ( المجموع 1/487 ) روى عبد الرزاق في المصنَّف ( 1/209/807 ) عن أبي عثمان النَّهدي , قال : ( حضرتُ سعدًا وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين , فقال عمر : يمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته ) . قال الشيخ العلامة الألباني : و إسناده صحيح على شرط الشيخين , وهو صريح في أن المسح يبتديء من ساعة إجرائه على الخف إلى مثلها من اليوم والليلة , وهو ظاهر كل الآثار المروية عن الصحابة في مدة المسح فيما علمنا ) . تمام النصح (صفحة 91 , 92)
محل المسح وصفته :
المشروع في المسح على الخفين أن يمسح ظاهرهما لا باطنهما مرة واحدة لحديث علي بن أبي طالب t قال : ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه , لقد رأيت رسول الله r يمسح على ظاهر خفه ) . صحيح أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي وانظر إرواء الغليل ( صفحة 140 ) .
ما يبطل المسح :
يبطل المسح بأحد هذه الثلاثة :-
1- انقضاء المدة : لأن المسح موقت كما علمت , فلا يجوز الزيادة على المدة المقررة .
2- الجنابة : لحديث صفوان : كان رسول الله r يأمرنا إذا كنا سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة , لكن من غائط وبول ونوم) حسن _(انظر إرواء الغليل صفحة140){ المقصود بقوله لكن من غائط وبول ونوم أي لا ينزع خفيه من غائط وبول ونوم }
3- نزع الممسوح عليه من الرجلين : لأنه إذا نزعهما ثم لبسهما لم يكن أدخل رجليه طاهرتين .
انتهاء مدة المسح ليست من نواقض الوضوء :
إذا مضت مدة المسح ولم يُحدِث المتوضيء فوضوءه صحيح إلى أن يحدث لأن انتهاء مدة المسح ليس من نواقض الوضوء على الصحيح من أقوال أهل العلم قال الإمام النووي ( وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتادة وسليمان بن حرب , واختاره بن المنذر وهو المختار الأقوى , وحكاه أصحابنا عن داود) (المجموع 1/527) وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام بن تيمية في كتابه ( الإختيارات العلمية ص15 ) حيث قال : { ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ولا بانقضاء المدة ولا يجب عليه مسح رأسه ولا غسل قدميه وهو مذهب الحسن البصري كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور ) .
نزع الخف أو الجورب ليس من نواقض الوضوء :
إذا نزع الشخص الجورب بعد أن مسح عليه وهو على وضوء فلا ينتقض وضوءه لأن الوضوء لا ينتقض بمجرد نزع الخف أو الجورب على الراجح من أقوال أهل العلم , مالم يطرأ ناقض من نواقض الوضوء وهو رواية عن إبراهيم النخعي وبه قال الحسن البصري وعطاء وابن حزم واختاره النووي وابن المنذر وابن تيمية وغيرهم انظر المحلى (2/105 ) , والأوسط ( 1/460 ) , والمجموع ( 1/558 ) , والإختيارات ( صفحة 15) . وقد رجح الشيخ العلامة الألباني هذا القول في تمام المنة ( صفحة 115) وهذا مذهب علي بن أبي طالب أيضا , فقد أخرج البيهقي ( 1/288 ) والطحاوي في شرح المعاني (1/58 ) , عن أبي ضبيان أنه رأى عليا t بال قائماً , ثم دعا بماء فتوضأ و مسح على نعليه , ثم دخل المسجد , فخلع نعليه , ثم صلى . زاد البيهقي ( فأمَّ الناس ) . وإسنادهما صحيح على شرط الشيخين , وفيه دليل على جواز المسح على النعلين , وقد صح ذلك عن النبي r في أحاديث سبقت الإشارة إليها ) .
لُبْسُ جوربٍ فوق جورب :
وهذا لا إشكال في جوازه إذا لبس الجوربين على طهارة { المقصود بالطهارة الوضوء و غسل الرجلين } كما هو أصل الحكم . أما إذا لبس الثاني محدثاً فلا يجوز أن يمسح عليه , ولو أنه خلع الجورب الثاني الذي لبسه على طهارة _ فيجوز له الإستمرار في المسح على الجورب الأول . قلت : والحكم ذاتُهُ فيمن لبس نعلين فوق جوربين سواءً بسواء , بشرط لُبس الجميع على طهارة ) . أحكام الشتاء صفحة 37 - 38 للشيخ علي الحلبي ) .
فائدة : مشروعية المسح على الجوربين والنعلين رخصة عامة قال بها أكثر العلماء وليست خاصة بفصل الشتاء كما يظن بعض الناس بل يجوز المسح عليهما صيفاً وشتاءاً , وسفراً وحضراً .
هذا وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أعده وكتبه : إبراهيم زاهدة ( أبو رضوان السلفي )