من المقرر عند العلماء أن القولين المتعارضين يسلك فيهما مسلك الدليلين المتعارضين شرعا ، ذلك بالجمع بينهما إذا كان الأمر متاحا على وفق الصنعة الفقهية فإن " الإعمال خير من الإهمال "1.
قال الناظم:
وللكلام يا فتى الإعمال****أولى من الإهمال فيما قالوا
وإذا تعذر الجمع وعلم المتأخر منهما فهو القول المعتمد، والمتقدم معدول عنه ، وإذا تعذر هذا أيضا صير إلى الترجيح، ومن صور العمل بذلك عند السادة المالكية : تعارض الراجح في المذهب مع المشهور.
* تعريف الراجح والمشهور
الراجح لغة: الوازن، ومنه: رجح الميزان: مال، ورجحت إحدى الكفتين الأخرى: مالت بالموزون 2.
أما اصطلاحا: فقيل : الراجح هو ما قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله 3، فيكون بهذا مرادفا للمشهور على ما هو مشهور كما سيأتي قريبا ، والذي عليه الجماهير من فقهاء المالكية هو الحد الأول 4، وهو الأنسب للمعنى اللغوي.
قال أبو الشتاء الصنهاجي المالكي 5:
إن يكن الدليل قد تقوى****فراجح عندهم يسمى
ويعبر عنه عندهم ببدائل اصطلاحية أخر كالأصح والأصوب والظاهر والمفتى به، والعمل على كذا 6.
أما المشهور لغة: فهو مشتق من الشهرة، والشهرة : ظهور الشيء في شنعة حتى يشهره الناس 7.
أما اصطلاحا: فقيل هو ما قوي دليله فيكون بهذا مرادفا للراجح، وهذا المعنى أشهره أحمد الونشريسي رحمه الله 8، وصححه أبو الحسن التسولي 9 وجماعة من المالكية.
وقيل : هو قول ابن القاسم في المدونة، وإليه مال شيوخ الأندلس والمغرب كالباجي وابن اللباد واللخمي وابن أبي زيد والقابسي 10.
وقيل: المشهور ما كثر قائله وهو مذهب الجماهير من المالكية وهو الحق الأنسب للمعنى اللغوي ومال إليه ابن الحاجب، وأشهره العدوي في حاشيته 11، وقال الدسوقي :" هو المعتمد " 12، وصوبه أبو عبد الله القادري 13، والرجراجي 14، ونظمه أبو الشتاء الصنهاجي في قوله 15:
والقول إن كثر من يقول به****يسمى بمشهور لديهم فانتبه
* الواجب عند تعارض الراجح مع المشهور
على ما صوب في تعريف الراجح والمشهورمن أن الأول ما قوي دليله، والثاني ما كثر قاله وهو اصطلاح الجماهير من المالكية فإنهم اختلفوا في أيهما يقدم عند التعارض على قولين:
الأول: تقديم المشهور على الراجح، قاله العدوي 16، وبه جرى صنيع فريق من المالكية كالمازري والشاطبي والمهدي الوزاني في آخرين.
الثاني: تقديم الراجح على المشهور، وإليه مال أبو بكر بن العربي 17، وهو مذهب الجماهير من الفقهاء والأصوليين.
قال الهلالي المالكي رحمه الله:" ومقتضى نصوص الفقهاء والأصوليين أن العمل بالراجح واجب " 18 وهو الصواب.
قال أبو الشتاء الصنهاجي رحمه الله:
مشهورهم لراجح تعارضا****يقدم الراجح وهو المرتضى 19
بل هذا القول جرى عليه الإمام مالك رحمه الله وعد من أصوله.
قال ابن عزوز المالكي رحمه الله:".. في الفرق بينهما أن المشهور ما كثر قائله، والراجح ما قوي دليله كما اعتمده القرافي. وقال بعده : وكان مالك يراعي ما قوي دليله لا ما كثر قائله، ومثله قاله ابن عبد السلام.
فهذا أصل مهم من أصول مالك ينبغي أن لا يغفل عنه في الخلافيات ولذا قال المحققون: إذا تعارض الراجح والمشهور فالواجب العمل بالراجح " 20.
والوجه الصحيح الفصيح لهذا الترجيح أن يقال : قدم الراجح على المشهور " لأن قوته نشأت من الدليل نفسه من غير نظر للقائل، والمشهور نشأت قوته من القائل " 21، وفي هذا اعتبار الحجج والبراهين لا كثرة القائلين كما هو المسلك الواضح المبين ! وعكس القضية ممتنع في مقررات الشرع ومسلمات العقول، بل هو أمر مشين !.
ثم من المقرر عند العلماء المحققين أن الدليل إذا كان ثابتا لا معارض له مقابل قول جماهير أهل العلم من سائر المذاهب فالحجة في الدليل 22 فكيف بمخالفة الدليل لجمهرة علماء مذهب من المذاهب فقط ؟! فتأمل.
قال العلامة صديق حسن خان رحمه الله" اعلم أنه لا يضر الخبر الصحيح عمل أكثر الأمة بخلافه، لأن قول الأكثر ليس بحجة " 23
وعليه يظهر مبالغة أبي الحسن التسولي رحمه الله في الانتصار لتقديم المشهور في المذهب المالكي على الراجح حتى أنه قال:" المقلد لا يعدل عن المشهور وإن صح مقابله، وأنه لا يطرح نص إمامه للحديث، وإن قال إمامه وغيره بصحته !" 24.
وفي هذا النص دعوى للتساهل في الفتوى، وفتح لباب التعصب المقيت مع أنه " لا يجوز التعصب إلى المذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج وتقريبها على الطرق الجدلية، مع اعتقاد الخطأ أو المرجوحية عند المجيب كما يفعله أهل الخلاف إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة، والتعلم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق، فالحق أعلى من أن يعلى عليه، وأغلب من أن يغلب " كما قال المقري المالكي رحمه الله 25.
وقال بوطليحية في نظم المعتمد من الكتب والفتوى على مذهب المالكية :
ولم يجز تساهل في الفتوى****بل تحرم الفتوى بغير الأقوى
قال ابن فرحون المالكي رحمه الله:" واعلم أنه لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى وكذلك الحاكم ( أي القاضي ) " 26.
إذن التحقيق المعتمد تقديم الراجح (وهو الذي قوي دليله ) على المشهور(وهو من كثر قائله ) عند التعارض عند المالكية رحمهم الله، وإليكم بعض التطبيقات والأمثلة التي تخص ذلك:
* مسألة تحية المسجد وقت خطبة الجمعة:
المشهور من مذهب مالك رحمه الله أن تحية المسجد لا تجوز وقت الخطبة، وعليه عول خليل رحمه الله في مختصره عاطفا على المحرمات قائلا:" وابتداء صلاة بخروجه وإن لداخل " مواهب الجليل 2/179، وانظر المدونة 2/274.
وقد نقل ابن شاش وأبو بكر بن العربي القول بجواز تحية المسجد وقت الخطبة عن محمد بن الحسن عن مالك27، واختاره السيوري المالكي من شيوخ المذهب انظر مواهب الجليل 2/179.
قال النفراوي المالكي رحمه الله:" ما ذكرناه من حرمة الصلاة بعد خروج الخطيب ولو للداخل هو مشهور المذهب ومقابله جواز إحرامه ولو حال الخطبة، وعليه السيوري من علمائنا28" الفواكه الدواني 1/412.
وعليه فالراجح في المذهب القول بالمشروعية لدلالة الحديث بصراحة 29على ذلك وهو حديث سليك رضي الله عنه من رواية جابر رضي الله عنه قال:" دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب، فقال: صليت ؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين "رواه الجماعة.
والقول بأن هذا الحديث خاص بسليك رضي الله عنه وعليه فهو إذن واقعة عين لا عموم لها تكلف وتحكم لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، و " الخصائص لا تثبث بالاحتمال " كما قال الحافظ في الفتح 1/245، ولذا قرر العلماء أن القول بالخصوصية في المسائل تحتاج إلى دليل لا مجرد دعوى انظر الجامع لأحكام القرآن 3/193 للإمام القرطبي المالكي رحمه الله 30.
* مسألة القبض والسدل في الصلاة:
جاء في المدونة 1/74 :" وقال مالك في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة قال 31: لا أعرف ذلك في الفريضة ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به على نفسه ".
وعلى مذهب المدونة جرى غير واحد من المالكية كابن عاشر رحمه الله في منظومته الشهيرة:
ردا وتسبيح السجود والركوع **** سدل يد تكبيره مع الشروع
فقيل أن القول بالسدل عند السادة المالكية هو مشهور مذهبهم لأجل ذلك.
قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله:" اختلف في ذلك علمائنا على ثلاثة أقوال، الأول: لا توضع في فريضة ولا نافلة...الثاني: أنه لا يفعلها في الفريضة، ويفعلها في النافلة...الثالث: يفعلها في الفريضة وفي النافلة، وهو الصحيح، روى مسلم عن وائل بن حجر أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يرفع يديه عندما دخل في الصلاة حيال أذنيه، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى " أحكام القرآن 4/1978.
وعليه فالقول الراجح الذي دل عليه الدليل في المذهب القول بمشروعية القبض في صلاة الفرض والنفل حتى قال الباجي المالكي رحمه الله:" وأما وضع اليمنى على اليسرى فقد أسند عن النبي عليه الصلاة والسلام من طرق صحاح.." المنتقى 1/281.
بل قال ابن عزوز المالكي رحمه الله بعد تقرير المشروعية :" وقد أسلفنا ما لا مزيد عليه وبذلك تعرف أنه لم يبق في يد صاحب السدل قوة دليل ولا كثرة قائل 32 وقد حصحص الحق لمن كان له تثبت وذوق عند طلب حقائق المسائل " هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك 134.
* مسألة صيام ستة أيام من شوال:
جاء في الموطأ :" قال يحيى: وسمعت مالكا يقول 33: في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان أنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك " 1/209.
وعلى مشهور المذهب هذا جرى خليل رحمه الله في مختصره.
وقال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله:" ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:(من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر) " الجامع 2/331.
فالقول الراجح ما ذهب إليه الإمام القرطبي رحمه الله لدلالة السنة الصحيحة الصريحة على ذلك 34.
.................................................
1. الأشباه والنظائر للسبكي رحمه الله 2/217.
2. لسان العرب 2/445، والقاموس 1/229، والمعجم الوسيط 1/329.
3. رفع العتاب والملام لمحمد القادري 19.
4. وهو الصواب انظر جواهر الإكليل لعبد السميع الأبي 1/4، ودليل السالك لحميدي شلبي 17 في آخرين.
5. منهاج الناشئين من القضاة والحكام 46، ومواهب الخلاق على شرح التاودي للامية الزقاق لأبي الشتاء 2/337.
6. منار السالك للرجراجي 44، بل إن بعض الفقهاء يطلق الراجح على المشهور والمشهور على الراجح، ولا يراعي فرقا بينهما، لأن القول المعتمد في المذهب يسمى راجحا ومشهورا من غير تمييز بين قوة دليله وكثرة قائله، وإليه مال المهدي الوزاني في رسالة له في استحباب السدل !! 76.
7. لسان العرب 4/431، والقاموس 2/67.
8. كما في المعبار 12/37.
9. كما في البهجة في شرح التحفة.
10. انظر حاشية الدسوقي 1/20، وكشف النقاب لابن فرحون 72_68، ومنح الجليل لعليش 1/20.
11. الحاشية للعدوي 1/39.
12. حاشية الدسوقي 24.
13. في "رفع العتاب والملام" 17.
14. منار السالك 44.
15. منهاج الناشئين 36، ومواهب الخلاق 2/237.
16. في حاشيته على الخرشي 1/541.
17. في أحكام القرآن 2/114.
18. نور البصر 156.
19. مواهب الخلاق 2/237.
20. هيئة الناسك لابن عزوز المالكي رحمه الله 133.
21. الصوارم والأسنة 66.
22. هذا مع العلم أنه في الغالب يكون الصواب مع الجماهير من فقهاء السلف والخلف كما هو مقرر عند أهل العلم والدين انظر السير للإمام الذهبي رحمه الله 7/117، والصحوة الإسلامية للعلامة ابن عثيمين رحمه الله 192.
23. قواعد التحديث 91.
24. البهجة في شرح التحفة.
25. قواعد المقري 2/397.
26. التبصرة 1/74.
27. " ولا يلتفت إلى إنكار ابن عرفة على من نقل الجواز عن مالك، لأن نفيه للجواز دعوى تفتقر إلى دليل، فضلا عن أنه معارض بإثبات غيره، ومع المثبت زيادة علم خفيت على النافي، قيقدم من هذه الجهة الإثبات على النفي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ " التعارض بين الراجح والمشهور في المذهب المالكي لقطب الريسوني 84، وانظر عارضة الأحوذي لابن العربي المالكي رحمه الله 2/299، ونيل الأوطار للشوكاني رحمه الله 3/257.
28. وذهب الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله إلى التخير بين صلاتها وتركها حالة الخطبة فقال :"قد قدمنا قوله عليه الصلاة والسلام للذي تخطى الرقاب: اجلس، واستعمال الحديثين يكون بأن الداخل إن شاء ركع، وإن شاء لم يركع.." الاستذكار 2/262، وانظر تحرير ذلك وفق ما دل عليه الدليل كتاب" اختيارات الحافظ ابن عبد البر رحمه الله الفقهية في العبادات" 638 فما بعدها.
29. قال النووي رحمه الله عند ذكر حديث سليك رضي الله عنه:" هذا نص لا يتطرق إليه التأويل ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه "شرح مسلم 3/430.
30. أما ما يروى عن ابن عمرو مرفوعا :" إذا صعد الخطيب المنبر، فلا صلاة ولا كلام" فحديث باطل، أخرجه الطبراني في الكبير وفيه أيوب بن نهيك وهو ضعيف الحديث وقال أبو زرعة: منكر الحديث. انظر مجمع الزوائد 2/184،و نصب الراية 2/201، والفتح 2/409، والضعيفة رقم: 98.
31. وفي نسبة هذا للإمام رحمه الله نظر.
32. لأنه حرر رحمه الله أن مشروعية القبض هو مشهور المذهب كذلك على خلاف ما هو مشهور كما هو راجحه وقد نقل في ذلك قول المسناوي المالكي رحمه الله حيث قال:" وقد اجتمع في سنة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة قوة الدليل وكثرة القائل " هيئة الناسك 133.
33. وقد خرج قوله هذا رحمه الله على جملة من المخارج: قيل كره مالك صومها مخافة أن يلحق الجهلة برمضان غيره، أما صومها على ما أراده الشرع فلا يكره.
وقيل لم يبلغه الحديث، أو لم يثبت عنده، أو وجد العمل على خلافه.
وقيل كره صومها مع وصلها بيوم الفطر أما من صامها أثناء الشهر فلا كراهة.
انظر في ذلك: شرح الزرقاني المالكي رحمه الله على الموطأ 2/190، وبداية المجتهد لابن رشد المالكي رحمه الله 1/308، و عقد الجواهر لابن الشاش المالكي رحمه الله 1/369، و الذخيرة للقرافي المالكي رحمه الله 2/530، وأقرب المسالك للدردير المالكي رحمه الله 1/692، والاعتصام للشاطبي المالكي رحمه الله 2/108.
34. وانظر تحرير ذلك وفق الحجة والدليل رسالة "تحرير الأقوال في صوم الست من شوال " للفقيه المحدث قاسم بن قطلوبغا رحمه الله.